د. وجيه فانوس – الحوارنيوز – خاص
يَحتارُ كثيرونَ، كيفَ أنَّ شعباً، يُعاني ما يُعانِيهِ اللبنانيُّونَ، طيلةَ عقودٍ مِنَ الظُّلم والقهر والافتئات على ما هو مِن مُسًلَّماتِ الحقِّ الإنسانيِّ في العيش الكريم؛ لَمْ يتمكَّن من القيامِ بثورةٍ شعبيَّةٍ، يسعى مِن خلالِها إلى إصلاحِ بُؤسِ ما هو فيه. ما بَرِحَ الشَّعب في لبنان يُواجِهُ، منذ أكثر من سنتين، نهباً منَّظماً لثرواته الشَّخصيَّة والعامَّة، واستيلاءً مقصوداً على كثيرٍ من مقدَّراته الوطنِيَّة، وتخريباً عاهراً لمؤسَّساته. ولا يقف الأمر عند هذا الحَدِّ بتاتاً، إذ إنَّ هذا الشَّعب، ومنذ أكثر مِن سَنَةٍ، لا يزالُ مفجوعاً بالانفجارِ المُخزي، والذي ما انفكَّ مجهولَ الأسبابِ والفاعلينَ، لمرفأْ عاصمته بيروت؛ ويضاف إلى كلِّ هذا، الانحلالُ المأساويُّ لإداراتِ كثيرٍ من المرافِقِ العامَّة، والإقفالُ الشَّامل لأعدادٍ كبيرة من المؤسَّسات الخاصَّة. ويمكنُ، وبكل أسىً، أن يضافَ إلى هذه اللائحةِ، بؤسُ الإقبالِ المتعاظمِ على الهجرة، مِن قِبَلِ غالبيَّةٍ معتبرةٍ من ناس الأجيال الطَّالعة من اللبنانيين؛ كما لا يمكن أنْ تخلو هذه الإضافة من ذِكْرٍ مُضْنٍ للتَّراجعِ المأساويِّ للقيمة الشَّرائيَّة للنَّقدِ الوطنيِّ؛ مع فِقدانِ أصنافٍ عديدةٍ من الدَّواء، وشِحُّ كثيرٍ من الخدماتِ الطبيَّةِ، في عديدٍ متنامٍ من المستشفياتِ والمستوصفات والعيادات. وتأتي ثالثة الأثافي، في هذا السِّياقِ الجنائزيِّ، لتحضرَ بكآبةٍ وطنِيَّةٍ مزرِيَةٍ، في انهيارٍ جَلِيٍّ للثِّقةِ الشَّعبِيَّةِ بغالبيَّةِ أهلِ السِّياسةِ ومعهم المؤتمَنينَ، راهِناً، على ممارسةِ شُؤونِ السُّلطةِ الرَّسميَّةِ؛ وقد لا ينتهي الأمرُ، حُكْماً، بِتَشَوُّهِ ما كانَ معروفاً مِن الحضورِ الزَّاهي المعتاد، ثقافِيَّاً واجتماعيَّاً، للبلد.
جرَّبت قطاعاتٌ كثيرةٌ من الشَّعب في لبنان، أن توقدَ مشاعل غضبها ثورةً شعبيَّة طاغِيةً؛ فواجَهَ هؤلاء الغاضبون قَمْعَ المُولَجين، مِن قِبَلِ الدَّولةِ، بشؤونِ الأمن؛ فتحاملوا على أصابات كثيرٍ من ناسِهِم، في العيون والأطراف حتَّى في محاولات عديدةٍ للتَّجريح بالكرامات. تصاعد أنينُ الغاضبين، عند منعطفات الشَّوارع؛ تارةً بصخبٍ عارم، وطوراً بصمتٍ مفجعٍ، ولكن دائماً بوجعٍ وصبرٍ. اقتلعَ بعض الغاضبين النَّزر اليسير ممّا وقع تحت أيديهم من بعض بلاط أعمدة مداخل قِلَّةٍ مِن مباني الوَسَطِ التِّجاريِّ؛ وهشَّموا، كذلك، بعضَ واجهاتِ محالٍ تجارِيَّةٍ؛ ثمَّ، وبكلِّ وجعٍ، انكفأت جماعاتٌ كثيرةٌ، من هؤلاء الغاضبين السَّاعين إلى إيقاد مشاعل الثَّورةِ، كلٌّ إلى مَنْزِلِهِ، أو مَقهى رِفاقِه، أو رصيفِ خيبةِ أملِ ناسِهِ، مَفجوعاً ومَخذولاً، ولاعِناً ساخطاً.
لم يَبْقَ الحالُ على بداياتِهِ هذهِ، التحقت جماهيرٌ من المثقَّفين وأعدادٌ من جماعاتِ أهلِ الفِكر، بَرَكْبِ السَّعي إلى محاولاتِ إيقاد مشاعِلِ الثَّورةِ الشَعبيَّة. نُصِبَت خِيَامُ الاعتراضِ، في الساحاتِ العامَّة؛ فكانت حلقاتُ النِّقاشِ، وأشرقت، تالياً، سجالاتُ التَّحليلِ، كما تبارت مُقارعاتُ الاستنتاجِ في تعدُّدِ مذاهبها بين أصحابِها؛ ولَمْ يخلُ الأمر مِن تدبيجِ الخُطَبِ وصِوغِ المقالاتِ وتوزيعِ البيانات. باتت الأمور، بكلِّ ما فيها، مكشوفةً؛ هذا صارخٌ مِن جحيمِ وجعٍ يُعانيهِ، وذاك ضاجٌ مِن ضغوطاتِ طموحِ شوقٍ يُراوِدُهُ، وأولئكَ لاهثونَ وراءَ سرابِ وعدٍ مِن هُنا أو هُناك، وكُثُرٌ غارقونَ في أُسُسٍ لأفكارٍ عاهدوا وجودَهم، طيلةَ سِنينَ مُتراميةِ الأبعادِ والآفاق، مِن مدارات أعمارهم، على الإلتزام بها، بغضِّ أي نَظَرٍ عن تَطَوُّرٍ في الأحداثِ أو تغيُّرٍ في منطقِ الرُّؤيا كما الرُّؤية. يضاف إلى كلِّ هذا، أنَّه لمْ يَعُد ثمَّةَ ما يستتر به جماعاتُ السَّلبِ والنَّهبِ وصُنَّاعُ العارِ والفجيعةِ وروَّادُ البؤسِ ومتعهِّدوا التَّخريب والمُرَوِّجونَ للفجيعة والقَهرِ والذُّل. ما مِن واحدٍ، مِن هؤلاءِ جميعاً، على اختلاف سياساتهم، وتنوُّع أديانهم، وتعدُّد مذاهبهم، إلاَّ وقد أضحى معروفاً ومشهوراً ومشاراً إلى بُطْلِهِ، بأصابعِ الحقِّ، من قِبَلِ أفراد الشَّعب كافَّةً. إنَّهُ الظَّاهرُ بجلاءٍ، باسمِهِ وصِفَتِةِ ومطرحِ سَكَنِهِ والمكتب الذي يلتقي فيه بأرباب نعمته، مشفوعاً بِصحَّة التَّيَقُّنِ من أوقاتِ خروجه مِن البلدِ للسِّياحةِ أو لِتَدَبُّرِ أوضاعِ ما باتَ يَكْنُزُهُ في الخارجِ من أموالٍ ويقتنيهِ من عقاراتٍ ويساهمُ فيهِ من شركات ويقصده من مراتع استجمام.
ومع هذا، بل رغم كلِّ هذا، وبكلِّ ما في هذا ممَّا يشكِّلُ عادةً عوامل ضغطٍ نفسيٍّ واجتماعيٍّ وماديٍّ، ويُوَلِّدُ حُنْقاً فردِيَّاً وجَمْعِيَّاً، ويقودُ إلى رَفْضٍ للأمورِ وغضبٍ من استمرارِ وجودها، فإنَّ ثورة شعبيَّةً لم تنفجرْ في وجه كلِّ “أخضرٍ ويابسٍ”. واقعُ الحالِ، أنّ عموداً، ولو واحداً، من الأعمدة المرتكزةِ إليها قوَّة هذه الشَّبكة المتسلِّطة، بحكمها وغِيِّها وفجورها وصلافتها على الشَّعب، بحميع ما يقبع فيه ناسُه من توجُّهات وعقائد، ومن كلِّ حدبٍ وصَوْبٍ ينسلُّون منه إلى رحاب الوطن، لم يسقط، بل لم يتجرَّح مظهره، ولم يتأثَّر جوهره. ظلَّ الحالُ، يَنْعَمُ بكأنَّ شيئاً لم يكن؛ بل إن من صارَ مُريباً في نظرِ قاضٍ أو محقِّقٍ، باتَ وكأنَّه على يقينٍ من قدرتِهِ على محاكمةِ هذا القاضي أو ذاكَ المُحقِّق ومقاضاةِ كلٍّ منهما.
الأنكى، في كلِّ هذا الوضعِ، أنّ الانتخابات النِّيابيَّةِ في لبنان، أضحت في مرمى تعيينِ زمانها، وتحديدِ أمكنة إجرائها، وتسمية المرشحين لخوضِها؛ والمُفْجِعُ، إنَّها ستكونُ انتخابات وفاقاً للنِّظام الانتخابي المُمْعِنُ في عُبورهِ الأسطوريِّ لغياهبِ العقودِ الزَّمنيَّةِ، منذُ ستِّيناتِ القرنِ العشرينِ؛ ليصيرَ القانونَ، بموادِهِ وبنودها، القانونَ الجامِعَ لخفايا نقاطِ القوَّةِ والضُّعفِ الانتخابيتينِ، منذُ ما ينوفُ على عشرةِ عهودٍ سياسيَّةٍ متعاقبةٍ من الحُكم في لبنان؛ وكأنَّه قد صار، في ثَباتِهِ هذا، قانوناً انتخابيَّاً مُتجاوزاً لتغيُّراتِ الزَّمان واختلافاتِ المكان، وما فَتِئَ يقودُ، بكلِّ جدارةِ أداءٍ، إعادةَ انتاجِ النَوعيَّات التَّمثيليَّةِ النِّيابيَّةِ عينِها، لهذه الشَّبَكَةِ المُتَحَكِّمَةِ بِرقابِ الشَّعبِ، طيلَةَ عقودٍ وعهود.
ومع هذا، فلا مَلْمَحَ فاعلاً لِغَضَبٍ شعبيٍّ عارمٍ صار ثورةً؛ وكذلك، فلا تَوَجُّسَ مِن أيِّ خوفٍ حقيقيٍّ على مُسْتَقْبَلِ الشَّبَكَةِ المُتسلِّطةِ على رقاب الشَّعب ومصيرِهِ؛ بلْ الأنكى، أنَّ بعضَ فئات الشَّعبِ أصبحت، وكأنَّها تبحثُ في مجالات تفكير بعضِ ناسِها، في كيفيَّةِ مُمَالأتِها لِناسِ هذه الشَّبكةِ، والسِّعيِ إلى تَقَرُّبٍ ما منها؛ إذْ، وكما باتَ بعضُ ناسِ هذه الفئات من الشَّعب يقولون، مستشهدينَ بمراقبةٍ لهم لمساراتٍ يَرَوْنَها للتَّاريخِ والأحداثِ والنَّفسيَّاتِ، إنَّ التَّغيير مُستحيلٌ!
واقع الأمرِ، قد يرى بعضُ المُحَلِّلين لهذا الوضعِ، أنَّ غالبيَّةً مِن ناسِ الشَّعبِ في لبنانَ، يميلون إلى اعتمادٍ لهم على منطِقِ الفِكرِ الانفِعاليِّ، في نظرهم إلى الأمور وتقييمها، أو في تفاعلهم معها؛ غيبيَّاً كان هذا الفِكرُ أو عاطفِيَّاً، ذاتِيَّاً أو عامَّاً. وإذا ما صحَّ هذا التَّحليل، ففيهِ ما يفيد بغلبةِ الانفعالِ، وغالباً ما يرتكزُ على الآنِيَّةِ الظَّرفِيَّة، في تحديد الخطواتِ واتِّخاذ القرارات؛ مبتعداً عن مقاييس الموضوعيَّة العقلانِيَّة وحساباتِها.
ثمَّة، كذلك، من يرى أنَّ مجموعاتٍ أساسٍ، من المُثقَّفين المُفترضُ بهم الانشغالَ بتحصينِ وعيِ الرَّأي العامِ، وفاقاً لمعطياتِهم المعرِفِيَّةِ والثَّقافِيَّةِ؛ تعتمِدُ مناهجَ مِنَ الفِكْرِ الشَّكليِّ التَّظاهُرِيِّ، بما فيهِ مِن أبعادٍ تاريخانِيَّةٍ، ذاتُ فاعِلِيَّاتٍ صَنَمِيَّةٍ ثَباتِيَّةٍ، باستِيحائِها كثيراً مِن تجارُبَ فكريَّةٍ للآخرينَ، مرتبطةٍ بمنطقِ بيئاتٍ ثقافِيَّةٍ وفِكرِيَّةٍ غَيْرِ مَحَلِّيَّةٍ. يضافُ إلى هذا، من يتَّجه إلى وجودِ بعضِ أفرادٍ أو جماعات، من أهل الفِكرِ الرِّياديِّ والقياديِّ، مِمَّن وصلوا بقيادتهم إلى إمكانيَّات معقولةٍ للتَّأثيرِ في مجموعات من الثَّائرين الشَّعبيين؛ مصابون، أساساً، بنرجسيَّةٍ وُجودِيَّةٍ، مُمْعِنَةٍ في تعاظُمِها، إلى درجةِ قَتْلِ الذَّات واغتيالِ كلِّ ما تراهُ آخراً لها. ولعلَّ في هذا التَّوجُّه، ما قد يبيِّنُ، ولو بشيءٍ من التَّقلقلِ، احدَ مُسَوِّغاتِ الانتِفاء الواقِعيِّ والعملِيِّ لبروز قيادةٍ ثورِيَّةٍ متكاملةٍ في ما بينها، توحيداً لِلفِعلِ الثَّوريِّ الشَّعبيِّ؛ وتحويلهِ، تالياً، مِن مسعىً طَموحٍ إلى إيقادِ مشاعلِ ثورةٍ شعبيَّةٍ طاغِيةٍ، إلى تحقيقٍ فِعلِيٍّ لوجودِ هذهِ الثَّورةِ، من جِهَةٍ، وتجسيدٍ إيجابِيٍّ، من جهةٍ ثانيةٍ، لموضوعيَّةِ طموحاتِها؛ على مستوى الوطنِ برمَّتهِ، والشَّعبِ بتنويعاتهِ الوطنِيَّة كافَّة.
تبقى الإشارةُ، في هذا المجالِ، إلى أنَّ غالبيَّةً لا بأسَ بِها، مِن الزَّعماءِ السِّياسيين، مُدرِكَةٌ، بكلِّ واقعيَّةٍ وجدارةٍ ووعيٍّ ثاقِبٍ، لِحقيقةِ ما عليهِ مُعظَمُ أفرادِ الشَّعبِ وجماعاتِهِ؛ ولِذا، فإنَّ هؤلاء الزَّعماءِ، ما فتِئوا يسعونَ، بكلِّ بَراعةٍ وإتقانٍ وحِرَفِيَّةٍ، إلى استغلالٍ مُنْتِجٍ لهذا الوضعِ، لِما هو في صالحهم الذَّاتيِّ؛ وذلكَ بِكلِّ ما يَنْهَضُ عليهِ الوَضْعُ الشَّعبيُّ في لبنان، مِن خلفيَّاتٍ، وبِجَميعِ ما يَحوِيهِ مِن إمكاناتٍ، يُضافُ إلى هذا، وبوضوحٍ لا لبسَ فيهَ، أنَّ مُشَغِّلي اللُّعبةَ السِّياسيَّةَ اللُّبنانِيَّةَ، في الخارج، يعرفون أنَّ نقطة الضَّعف الأساس، لدى ناسِ القيادةِ الفاعلةِ في الدَاخلِ، تَكْمُنُ في تحصيلِ الأقصى مِن المكاسِبِ الشَّخصِيَّةِ، الماديَّةِ منها كما المَعنَوِيَّةِ، في الدَّاخلِ والخارج معاً.
الكارثةُ العُظمى، في هذا الشَّأنِ الوطنيِّ الأساسِ والخَطيرِ، والذي يرتكزُ مُسْتَقْبَلُ وجودِ الشَّعبِ والأرضِ والوطنِ على النَّهضةِ الموضوعِيَّةِ لأركانه؛ هو أنَّه لا وجودَ، في لبنانَ، وفي هذهِ المرحلةِ بشكلٍ خاصٍّ، لثقافةٍ فاعِلَةٍ حقَّاً لمفهومِ المواطَنَةِ وقِيَمِها، بينَ اللُّبنانيين ودَوْلَتِهِم. ينهضُ الفاعِلُ السِّياسيُّ، الرَّاهنُ، حتَّى الآن، على قدراتِ قوَّةِ وجودِ الفِكْرِ الطَّائفيِّ التَّحاصُّصٍيِّ، وَسَعَةِ استِغلالِ مجالاتِ التَّوجُّهِ المَذْهَبِيِّ الدِّينيِّ، عَبْرَ الاستزلامِ للزَّعيمِ.
هي ذي، وبكل وضوحٍ ومباشرةٍ، قراءةٌ للواقِعِ الذي يجعلُ الغَلَبَةَ في السِّياسةِ اللُّبنانيَّةِ لصالِحِ الزَّعيمِ، على مصلحة الشَّعبِ؛ كما يَضَعُ الفاعلِيَّةَ الجماهيريَّةَ، في كفَّةِ الانفعالِ الشَّعبيِّ الاستزلاميِّ؛ وليس، أبداً، في كفَّةِ الثَّورةِ السَّاعيةِ إلى بناءِ وطنٍ ذي مؤسَّساتٍ نشطةٍ ووحدةٍ وطنِيَّةٍ حقيقيَّةٍ جذرِيَّةٍ موحِّدةٍ وفاعِلَة.
*رئيس ندوة العمل الوطني- لبنان
زر الذهاب إلى الأعلى