قانون قيصر وتداعياته على لبنان
إن النظرة المتفحصة لأحوال لبنان منذ ما قبل السابع عشر من تشرين الماضي، أي منذ ما قبل ولادة وباء كورونا، ينبئ بأعاصير خطيرة وأزمات ماحقة آتية بلا هوادة نحو هذا البلد الصغير بطريقة لم يعهدها من قبل حتى في فترة الحرب الأهلية وما رافقها وتلاها من أحداث داخلية وخارجية.
ولقد كان أسوأ تلك الأعاصير الانهيار الاقتصادي الذي وقع نتيجة أسباب وعوامل باتت معروفة. لكن الجديد في الأمر هو توقف المساعدات العربية عموماً، والخليجية خصوصاً، منذ سنوات، أي ما قبل كورونا، وقبل السقوط المدوّي لسعر النفط، مع أن المعونة الأوّلية التي تمكّن لبنان من الوقوف على قدمي عافيته لا يلزمها مبالغ طائلة، وقد كان يحصل على أضعافها لأوضاع كانت أقل بكثير من ما يعانيه حالياً.
ولا شكّ أن أزمة النازحين السوريين قد زادت الأوضاع سوءاً خصوصاً وقد وُضعت العراقيل الدولية لمنع عودتهم إلى بلدهم الذي استعاد عافيته بشكل شبه كامل، وذلك للضغط أكثر على لبنان. ولقد شهدنا في الفترة الأخيرة صحوة غريبة للدعوة الصارخة لإقفال الحدود غير الشرعية بين لبنان وسوريا، مع أنها وضع قائم منذ عشرات السنين. بالإضافة إلى دعوة أخرى مريبة لتعديل مهمات اليونيفل لمراقبة الحدود بين لبنان وسوريا، ما يشي بأن الخناق يُراد فرضه على كلا البلدين وشعبيهما.
ومع كل ذلك فقد مُنع لبنان الرسمي من التواصل مع النظام السوري (مع إن مصلحة لبنان أكبر في هذا التلاقي) لأسباب متشعبة متفرعة لا يُستشف منها سوى أمر واحد: الإملاءات نفسها من السيد الغربي، للتضييق على كلا البلدين.
كل ذلك وكثير غيره فرض على لبنان اللجوء للصندوق النقدي الدولي، وليس خافياً على أحد مدى سيطرة الولايات المتحدة الأميركية على قراراته الاقتصادية التي تحاكي السياسة في كل تشعباتها وتفاصيلها. وتاريخ هذا الصندوق ينبئ بكل وضوح أن لجوء البلاد الضعيفة إليه لم يؤدِ إلا لمزيد من الأزمات والانهيار.
وقد طلّ علينا أخيراً القانون الأميركي ضد سوريا وهو قانون قيصر الذي يهدد أي بلد أو مؤسسة أو شركة أو أفراد بالعقوبات الأميركية عند الدعم أو التعامل مع النظام السوري، أياً كان الدعم أو التعامل. ولا شك أن هذا القانون لن يضر بسوريا فحسب (وإن كان هناك من يعتبر أنه لن يضيف جديداً جدياً لعقوبات غربية اعتادتها سوريا ونظامها)، فإن تداعياته وتأثيراته ستكون قاسية على لبنان الممزّق في كل أركانه، إذ أن هناك علاقات عضوية تاريخية بين الاقتصادين على أقل تقدير، والشركات الاستثمارية والمؤسسات اللبنانية العاملة في سوريا أو في لبنان لا حصر لها، بالإضافة إلى تلك التي تستعد للانطلاق إلى سوريا للمساهمة بإعادة الأعمار والتي سوف يفيد لبنان منها كثيراً كما هو المتوقع.
لا يمكن فصل الأزمات الأخيرة التي يعيشها لبنان عن قانون قيصر الأميركي، فكما أنه يريد إخضاع سوريا فإنه يريد تركيع لبنان واستنفاد كل طاقاته، والتخلي عن نقاط قوته، ولا شك أن أبرزها المقاومة وسلاحها الذي يراد له أن يذوب في هذه المعمعة الاقتصادية المالية السياسية. واسألوا الانتفاضة اللبنانية منذ أيام قليلة التي دعت بشكل مباشر وصريح لنزع سلاح "الدويلة"، وتطبيق القرار 1559، في بلد كل ما فيه يتأوّه معاناة وجوعاً وحرماناً، لتكون المقاومة، الفرح التاريخي الوحيد في قلوبنا الكسيرة، سبباً لما يتخبّط به لبنان وأهله.
إن لبنان في مرحلة خطيرة لم يعش مثيلاً لها منذ نشأته، والسير في الطريق الأميركي واضحة معالمه، أفلا نستقرئ تاريخ البلاد من حولنا ونعتبر من الذين هُزموا وخُضعوا وذُلوا ولمّا تزل آثار هزيمتهم أمام أعيننا؟ أم أن عدم الخضوع هو قرار صلف غير واقعي وغير براغماتي في محيط يتنفّس الاستكانة والخضوع وأمان الواقعية؟