فِي الذِّكْرَى السَّنَوِيَّةِ لِرَحِيلِ العَلَّامَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ مَهْدِي شَمْسِ الدِّينِ: رُؤْيَةٌ فِكْرِيَّةٌ تُحْيِي الأَوْطَانَ وَالْبُلْدَانَ (غازي قانصو)
بِقَلَمِ: د. غَازِي قَانْصُو
تَمُرُّ عَلَيْنَا فِي الْعَاشِرِ مِنْ شَهْرِ كَانُونَ الثَّانِي الذِّكْرَى السَّنَوِيَّةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ لِوَفَاةِ العَلَّامَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ مَهْدِي شَمْسِ الدِّينِ، ذَلِكَ الرَّمْزُ الْعِلْمِيُّ وَالدِّينِيُّ الَّذِي جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ، وَالْوَعْيِ وَالدِّرَايَةِ، وَالإِيمَانِ وَالْيَقِينِ، وَالأَخْلَاقِ السَّامِيَةِ. كَانَ مَنَارَةً فِكْرِيَّةً وَرَجُلًا كَبِيرًا مِنْ رِجَالِ الإِصْلَاحِ الَّذِينَ تَرَكُوا بَصَمَاتٍ خَالِدَةً فِي مِيدَانِ السِّيَاسَةِ وَالاجْتِمَاعِ الإِنْسَانِيِّ، مُقَدِّمًا رُؤًى مُتَقَدِّمَةً لِبِنَاءِ الدَّوْلَةِ وَالْمُجْتَمَعِ عَلَى أُسُسٍ مِنَ الْعَدَالَةِ وَالْوَحْدَةِ، تُوَاكِبُ الْحَدَاثَةَ وَالْمُعَاصَرَةَ وَتَحْفَظُ الأَعْرَافَ وَالأُصُولَ فِي آنٍ.
*رُؤْيَةٌ سِيَاسِيَّةٌ وَاجْتِمَاعِيَّةٌ تُنَاسِبُ الزَّمَنَ الْمُعَاصِرَ*
مِنْ أَبْرَزِ أَفْكَارِ العَلَّامَةِ الشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ كَانَتْ رُؤْيَتُهُ حَوْلَ تَكْوِينِ الِاجْتِمَاعِ السِّيَاسِيِّ بَوَصْفِهِ الأَسَاسَ لِبِنَاءِ الدَّوْلَةِ الْقَوِيَّةِ الْعَادِلَةِ. هَذِهِ الدَّوْلَةُ، فِي نَظَرِهِ، لَيْسَتْ مُجَرَّدَ هَيْكَلٍ سِيَاسِيٍّ إِدَارِيٍّ، بَلْ هِيَ كِيَانٌ يَعْمَلُ عَلَى تَحْقِيقِ التَّوَازُنِ بَيْنَ حُقُوقِ الْمُواطِنِينَ وَوَاجِبَاتِهِمْ. رَكَّزَ عَلَى ضَرُورَةِ أَنْ تَكُونَ الدَّوْلَةُ، كَسُلْطَةٍ رَسْمِيَّةٍ، خَالِيَةً مِنَ الْهُوِيَّاتِ الطَّائِفِيَّةِ، بِحَيْثُ تُحْتَرَمُ الطَّوَائِفُ وَأَفْرَادُهَا بِالْكَامِلِ، مَعَ تَمَامِ الْحَقِّ فِي أَنْ يُمَارِسَ كُلُّ فَرْدٍ مَا يَعْتَقِدُ وَمَا بِهِ يَتَعَبَّدُ وَمَا بِهِ يُخْدِمُ مُجْتَمَعَهُ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ، دُونَ أَنْ تَكُونَ الدَّوْلَةُ أَسِيرَةً لِهَذِهِ الْاِنْتِمَاءَاتِ.
فَالدَّوْلَةُ، فِي رُؤْيَتِهِ، هِيَ لِجَمِيعِ مُوَاطِنِيهَا دُونَ تَمْيِيزٍ. كَمَا طَرَحَ العَلَّامَةُ الشَّيْخُ مَفْهُومَ *”الدَّوْلَةُ الْعَادِلَةُ لِمُواطِنِينَ أحرَار”،* الَّتِي لَا تُمَيِّزُ أحَدًا إِلَّا بِالْكَفَاءَةِ وَالْمُواطَنَةِ الصَّالِحَةِ، وَاعْتَبَرَهَا حَجَرَ الأَسَاسِ لِمُجْتَمَعٍ مُتَوَازِنٍ وَمُزْدَهِرٍ.
*السِّلْمُ الأَهْلِيُّ وَالْوَحْدَةُ الْوَطَنِيَّةُ*
اِحْتَلَّتْ قَضِيَّةُ السِّلْمِ الأَهْلِيِّ وَالْعَيْشِ الْمُشْتَرَكِ مَكَانَةً مَرْكَزِيَّةً فِي فِكْرِ العَلَّامَةِ الشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ. كَانَ مُدَافِعًا عَنْ الْوَحْدَةِ الْوَطَنِيَّةِ، دَاعِيًا إِلَى نَبْذِ النِّزَاعَاتِ وَالصِّرَاعَاتِ الَّتِي تَفْتِكُ بِمُكَوِّنَاتِ الْأُمَّةِ.
رَأَى فِي التَّعَدُّدِيَّةِ الدِّينِيَّةِ وَالطَّائِفِيَّةِ عُنْصُرَ غِنًى إِنْسَانِيٍّ وَحَضَارِيٍّ يَجِبُ الْحِفَاظُ عَلَيْهِ وَحِمَايَتُهُ مِنْ عَبَثِ المُغرِضين.
*الوَحدَةُ الوَطنيَّة*
كَانَ يُؤْمِنُ بِأَنَّ الْوَحْدَةَ الْوَطَنِيَّةَ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالسِّلْمِ الْأَهْلِيِّ وَالْعَيْشِ الْوَاحِدِ، الَّذِي يَقُومُ عَلَى احْتِرَامِ الْآخَرِ وَتَقَبُّلِ اخْتِلَافَاتِهِ. دَعَا إِلَى تَعْزِيزِ ثَقَافَةِ الْحِوَارِ وَالْعَمَلِ الْمُشْتَرَكِ، مُعْتَبِرًا أَنَّ الْوَطَنَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِظَلَّةً لِجَمِيعِ أَبْنَائِهِ دُونَ اسْتِثْنَاءٍ، حَيْثُ يَتَسَاوَى الْجَمِيعُ فِي الْحُقُوقِ وَالْوَاجِبَاتِ، وَمُؤَكِّدًا عَلَى الْمَقُولَةِ الَّتِي سَارَ عَلَيْهَا الْمَجْلِسُ الْإِسْلَامِيُّ الشِّيعِيُّ الْأَعْلَى مِنْ أَيَّامِ الْمُؤَسِّسِ الْقَائِدِ الْكَبِيرِ السَّيِّدِ مُوسَى الصَّدْرِ: “لُبْنَانُ وَطَنٌ نِهَائِيٌّ لِجَمِيعِ بَنِيهِ”.
*الْعَمَلُ مِنْ أَجْلِ وَحْدَةِ الْأُمَّةِ بِأَسْرِهَا*
آمَنَ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بِأَنَّ الْأُمَّةَ وَاحِدَةٌ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ تَنَوُّعِ مُكَوِّنَاتِهَا، وَشَدَّدَ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الْعَمَلِ الْجَادِّ لِتَعْزِيزِ وَحْدَتِهَا وَحِمَايَةِ جَمِيعِ عَنَاصِرِهَا دُونَ اسْتِثْنَاءٍ. رَفَضَ فِكْرَةَ تَصْنِيفِ بَعْضِ مُكَوِّنَاتِ الْأُمَّةِ كَأَقَلِّيَّاتٍ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا يُشَكِّلُونَ جُزْءًا أَسَاسِيًّا مِنْهَا.
كَانَ يَرَى أَنَّ هَذَا التَّنَوُّعَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ قُوَّةٍ لَا ضَعْفٍ، دَاعِيًا إِلَى التَّعَاوُنِ الْعَمِيقِ بَيْنَ مُخْتَلِفِ الْمُكَوِّنَاتِ.
وَقَدْ رَبَطَ رُؤْيَتَهُ لِوَحْدَةِ الْأُمَّةِ بِإِيمَانِهِ الرَّاسِخِ، مُعْتَبِرًا أَنَّ هَذَا الْمُعْتَقَدَ مِنْ الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ لِلْإِيمَانِ، لَا مِنَ الْفُرُوعِ. وَمِنْ هُنَا، دَعَا إِلَى جَعْلِ الْوَحْدَةِ حَقِيقَةً رَاسِخَةً فِي الْبِنَاءِ الْإِنْسَانِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ، قَائِمَةً عَلَى الْاحْتِرَامِ الْمُتَبَادَلِ وَالْإِيمَانِ الْمُشْتَرَكِ بِمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ كَكُلٍّ.
*عَدُوٌّ وَاحِدٌ لَا غَيْرُ: الْمُحْتَلُّ*
فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَضَايَا الْكُبْرَى، كَانَ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ حَاسِمًا فِي تَحْدِيدِ الْعَدُوِّ الْحَقِيقِيِّ: الْعَدُوُّ الصَّهْيُونِيُّ الْمُحْتَلُّ لِأَرْضِ فِلَسْطِينِ وَلِأَرْضِ وَطَنِنَا لُبْنَانَ وَغَيْرِهِ مِنَ الدُّوَلِ الْعَرَبِيَّةِ.
اِعْتَبَرَ أَنَّ الصِّرَاعَاتِ الدَّاخِلِيَّةَ بَيْنَ مُكَوِّنَاتِ الْأُمَّةِ تُضْعِفُ الْجَبْهَةَ الدَّاخِلِيَّةَ وَتَصُبُّ فِي مَصْلَحَةِ هَذَا الْعَدُوِّ. وَلِذَلِكَ، دَعَا إِلَى تَوْحِيدِ الْجُهُودِ لِمُوَاجَهَتِهِ بِكُلِّ الْوَسَائِلِ الْمُتَاحَةِ، مُشَدِّدًا عَلَى أَنَّ تَحْرِيرَ الْأَرْضِ وَحِمَايَةَ الْكَرَامَةِ الْوَطَنِيَّةِ هُوَ وَاجِبٌ لَا يَحْتَمِلُ الْمُسَاوَمَةَ.
*العلّامةُ الخطيبُ: صوتُ الحِكْمَةِ والحّقِ*
رَحَلَ أُسْتَاذُنَا الْكَبِيرُ، الْإِمَامُ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ مَهْدِي شَمْسُ الدِّينِ، تَارِكًا وَرَاءَهُ إِرْثًا غَنِيًّا مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْقِيَادَةِ. وَتَابَعَ الْمَسِيرَةَ فِي رِئَاسَةِ الْمَجْلِسِ الْإِسْلَامِيِّ الشِّيعِيِّ الْأَعْلَى الْإِمَامُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْأَمِيرِ قَبْلَانَ، صاحبُ القلبِ الكبيرِ رَحِمَهُ اللهُ، الَّذِي أدّى دَورَهُ فِي الْعَمَلِ لِخِدْمَةِ الدِّينِ وَالْوَطَنِ.
وَبَعْدَهُ، تَسَلَّمَ زِمَامَ الْأُمُورِ سَمَاحَةُ الْعَلَّامَةِ الْجَلِيلِ الشَّيْخُ عَلِي الْخَطِيبُ، رَاعِي الْمَسِيرَةِ وَأَمِينُ الْوَصِيَّةِ. كَانَ، وَمَا زَالَ، عُنْوَانًا جَلِيًّا لِلْمَوَاقِفِ الْحَقَّةِ فِي أَوْقَاتِهَا، وَصَوْتًا مُعَبِّرًا عَنْ وُجُوهِ النَّاسِ، وَمُخَاطِبًا صَادِقًا لِآلَامِهِمْ وَاحْتِيَاجَاتِهِمْ.
إِنَّهُ عَالِمٌ طَيِّبُ السَّرِيرَةِ، نَظِيفُ الْكَفِّ، وَحَكِيمٌ فِي قَرَارَاتِهِ. لَا تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَهُوَ جَرِيءٌ فِي الْحَقِّ، صَبُورٌ فِي زَوَايَا الصَّبْرِ، وَحَكِيمٌ مُقَدَّرٌ فِي سَاحَاتِ الْمِيدَانِ. كُلُّ وُقُوفٍ لَهُ هُوَ شَاهِدٌ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الثَّبَاتِ عَلَى الْمَبَادِئِ وَالْحِكْمَةِ فِي التَّعَامُلِ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَحْفَظَهُ وَيُوَفِّقَهُ، وَأَنْ يَرْعَاهُ بِعَيْنِ عِنَايَتِهِ لِمَا فِيهِ خَيْرُ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، فَإِنَّهُ رَكِيزَةٌ فِي بِنَاءِ مَجْتَمَعٍ يَسْعَى إِلَى الْحَقِّ وَيَحْتَضِنُ الْعَدَالَةَ فِي دَولةٍ قادرةٍ عادلةٍ، واحدةٍ موحّدةٍ، يَنشُدُ أن تُبنَى فِي لبنانَ أنّها “دولةُ المُواطَنة”.
*خَاتِمَةٌ: إِرْثٌ حَيٌّ*
خِتَامًا، رَحَلَ أُسْتَاذِي الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ مَهْدِي شَمْسُ الدِّينِ تَارِكًا خَلْفَهُ إِرْثًا فِكْرِيًّا وَسِيَاسِيًّا غَنِيًّا، يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَادَ إِحْيَاؤُهُ فِي زَمَنِنَا الْمُعَاصِرِ الَّذِي تَعْصِفُ بِهِ الْأَزَمَاتُ. كَانَ رَجُلًا تَجَاوَزَ بِفِكْرِهِ الْوَاسِعِ كُلَّ أَنْوَاعِ الْعَصَبِيَّةِ الضَّيِّقَةِ لِلطَّائِفِيَّةِ وَالصِّرَاعَاتِ الدَّاخِلِيَّةِ النَّاتِجَةِ عَنْهَا، دَاعِيًا إِلَى بِنَاءِ دَوْلَةٍ قَادِرَةٍ عَادِلَةٍ تَحْفَظُ حُقُوقَ الْمُوَاطِنِينَ، وَمُجْتَمَعٍ قَوِيٍّ يُسَاهِمُ فِي حِمَايَةِ الْوَطَنِ.
إِنَّ ذِكْرَى هَذَا الرَّجُلِ الْعَظِيمِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ مُنَاسَبَةٍ لِاسْتِذْكَارِ مَوَاقِفِهِ، بَلْ هِيَ دَعْوَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ لِلْعَمَلِ عَلَى تَحْقِيقِ رُؤَاهُ فِي الْوَحْدَةِ وَالْعَدَالَةِ وَالسِّلْمِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى.
رَحِمَ اللَّهُ الْعَلَّامَةَ الشَّيْخَ مُحَمَّدَ مَهْدِي شَمْسَ الدِّينِ، وَجَعَلَ أَفْكَارَهُ نُورًا يَهْتَدِي بِهِ كُلُّ مَنْ يَسْعَى لِبِنَاءِ وَطَنٍ كَرِيمٍ وَعَادِلٍ.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالمين.
مَع تَحِيّاتِي،
إِعْدَادُ: أ.د. غَازِي مُنِير قَانْصُو
الْمُسْتَشَارُ الْخَاصُّ لِرِئَاسَةِ الْمَجْلِسِ الْإِسْلَامِيِّ الشِّيعِيِّ الْأَعْلَى
الجمعة في ١٠ كانون الثاني ٢٠٢٥