حيّان سليم حيدر
تلاحظون لا شكّ أنّه لم يبقَ إنسان على وجه البسيطة إلّا وخلع بساطته وأصبح عالمًا طبيبًا باحثًا خبيرًا مخبريًّا… في علوم الكورونا ومتحوّلاتها ومشتقاتها ومتفشّياتها. لم يبقَ نوع من الإختبار إلّا وأصبح عاديًّا لا بل مُلْزِمًا ومقصّرًا حتى عن المرغوب. لم تبقَ نظرية : الوباء طبيعي، إختباري، مُفْتَعَل، من نكد الدنيا، مؤامرة إلّا وأضحت واقعة معقولة في بداية الأمر لتصبح أمرًا مثبّتًا حتميًّا لاحقًا. بحيث لم تعد البسيطة … بسيطة !
فكانت كلّ أنواع العلاجات والأدوية واللقاحات. تلك التي لقحت الناس في الأرض عاجزين، خادعين، راضخين وبكلّ خشوع: غَنَميّين (بعد الإعتذار من المِرْياع الكبير)، لا ينامون الليل ولا يهنؤون النهار.
ومع هذا، طبعًا، جاءت أدوات المرحلة، أعني بها الآلات التي باتت من نوع “لوازم حتمية” ما بات يعرف بالأجنبية ب “لازم أن تمتلك” (Must Have). وفي كلّ كوخ يعيش فيه الإنسان عليك أن تحفتظ بآلات لقياس: الضغط، الأوكسيجين، النبض، الوزن، ومن ثمّ تستدعي وتجري فحوصات ال pcr مع كلّ الإزعاج المتأتي من المسبار القطني المعروف (تاريخيًّا) بالأجنبية ب Coton -Tige، والذي غيّر وجهة مقصده من الأذن إلى الأنف فإلى سقف الحنجرة، وقد إعْتُبِرَ الأمر طبيعيًّا كون الإختصاص الطبّي طالما عُرِفَ ب”الأذن والأنف والحنجرة”. وبعدها يأتيك قياس الأجسام المضادة (antibodies) وويلٌ وثبورٌ لك إن تجاهلتها، هذا من دون ذكر الأكلاف. ومن ثمّ تأتيك الفحوصات النفسية بعدما سمعت ما أفصحت به الجارة من محاذير نقلًا عن قريبتها التي …أو ما أدلى به الساعي ممّا قرأه، أو ما تتابعه أنت عن صراع ترامب وفاوتشي (Trump & Fauci) ومنظمات الصحة المختلفة (من إختلاف في الرأي والتوجّه والتوجيه والمصالح) وماذا رشح عن إجتماع لجنة اللجان المتعدّدة المتاهات.
ويصبح الإنسان شريكًا، غير مضارب، مع بفايزر (Pfizer)، الذي هو شريك مساهم بمختبرات ووهان (Wuhan) ويمسي المُتَرَقّب مع أوروبا ضدّ الأسترازينيكا (AstraZeneca) معاقبة لخروج بريطانيا منها (من أوروبا وليس الوباء) وضدّ اللقاحين الصيني والروسي مخافة من العقوبة على نشر الفكر الشيوعي أو الديالِكتية الماركسية، إلى ما لا نهاية… فعلًا، لم يبقَ أحدٌ سليمًا، لدرحة أنّك “إذا أردت أن تعرف ماذا في إيطاليا فيجب أن تعرف ماذا في البرازيل أولًا”، على قول حُسْني البورَظان، رحمه الله).
وفي حديث دوري مع رفيق العمر نبيل إطمئنانًا عليه كونه “كَوْرَنَ” منذ فترة وبعد أن “أخذ” أول جرعة من اللقاح وهو بانتظار الجرعة الثانية، يكاشفني عن هاجسه بعد أن كرّر فحصًا فاقت فيه الأجسام المضادة ال90 وهي إشارة إلى أن المناعة باتت لديه عالية جدًّا جدًّا. فقلت وما الضرر من ذلك؟ وكان الجواب أنّه ربما تتجاوز المناعة الحدّ ال… إلى آخر منظومة الكلام التحذيري التخويفي الذي ألغى كلّ ما هو سواه. ويطول الحديث ويتكرّر الهوس في إتصالاتنا اللاحقة حتى قلت له إسمع قصّتي مع أخي حسّان عن العدّادات، فقال ماذا؟ وكان السرد التاريخي الآتي.
كنّا، كما تعلم، أنا وأخي تلميذين في لندن في ستينيات القرن الماضي وكان يصلنا مصروفنا مشتركًا وكان أن إشترينا سيارة ميني كوبر “س” (Mini Cooper S)وزوّدناها بكل أنواع الزوائد، في ذروة الرواج لها هناك، ومنها لوحة واجهة السائق (Tableau) ملأناها بعدّادات من كلّ نوع وصنف ووظيفة وغاية. فكان لكلّ عنصر أو حركة عدّاد. ولم يبق سائل أو جامد، ثابت أو متحرّك، لزِج أو مايع، سخن أو بارد، خفيف أو ثقيل (الدم) (ومعه كلّ مهضوم وغليظ) إلّا ما انْوَصَل بسلك إلى عدّاد يشخص إليك من أمامك، فكانت مراقبة دائمة للحرارة والضغط وغيرها من اللف والدوران.
وبعد حين، أصبحت عادة شبه أسبوعية بأن يتعطّل عدّاد ما لينشغل بال طلّاب الجامعة فيهرعوا إلى الميكانيكي الإنكليزي، وما زلت أذكر أسمه براين من كثر المراجعات، ليصلّح الأمر لقاء بضعة جنيهات في بضعة هنيهات، ونعود إلى حالنا السابقة. ويتكرّر الأمر مع عدّاد آخر إلى ما لا نهاية ولكن إلى نهاية نقود مصاريف الشهر، إلى أن؟ إلى أن طلبت من أخي أن يسمح لي أن أعالج الموضوع على طريقتي العملية. فذهبت إلى براين، الذي أصبح بمثابة صديق من كثر المراجعات والمعاينات، وسألته عن المشكلة التي تتكرّر كلّ فترة وفي كلّ العدّادات. فكان الشرح التالي.
هذه سيارة صغيرة الحجم مزوّدة بمحرّك مُقوّى إلى حدوده القصوى، وهي ليست مجهّزة بممْتصّات للصدمات ذات فعالية كبرى. وهي تُصَنّف بسيارة “نرفوزة” (Nerveuse)أي عصبية (شبيهة بأكثر سياسيي لبنان) وعندما تسير بسرعتها المعهودة، فهي ترتجف وترتجّ مع فرائص كلّ من فيها. وباختصار هي “تهزّ البدن” تمامًا كما يحصل من أمام وعلى منابرنا السياسية إن كان “هازًّا” أو “مهزوزًا” (البدن). أمّا العدّادات، فكلّها موصولة بأسلاك من طرفها على اللوحة إلى المكان الذي تقرأه، ومع الإرتجاج والوقت، ينفكّ السلك عن القارىء فيتعطّل أو يقرأ خطأً، وهكذا دواليك. والحلّ سألت ؟ لا حلّ لأن أدوات عالية إمتصاص الإرتجاج ليست متوفّرة في تكوين السيارة. ومن الآخِر، كان أن نصح بفكّ كلّ العدّادات والإبقاء على ثلاثة منها عاملة فقط تلك، وحصرًا، التي كانت مزوّدة بها في الأساس من الشركة.
وعدت إلى أخي وشرحت له الأمر قائلًا أنّني مع هذا الحلّ وإلّا فلا يمكن لي أن أشارك بعد اليوم في مصاريف السيارة. وماذا كان؟ وكما يطيب لي أن أختم الرواية بمقولة من بلاد المصدر: فصلنا كلّ العدّادات عن أسلاكها “وعشنا بعد ذلك رَغْد الحياة إلى الأبد” (And we lived happily ever after).
يا صديقي نبيل، فِكْ سِلك العدّاد… وعِشْ رَغْد الحياة !
بيروت، في 4 نيسان 2021م.
زر الذهاب إلى الأعلى