في وداع السّلطة: الشباب في الشارع
لم يخطر ببال السلطة السياسيّة اللبنانيّة، هكذا نوع من التحرّكات الشعبيّة، فقد فاق كلّ ما كانت تتصوّره، سواء منها، ما احتلّ الطرقات والشوارع والسّاحات، أو ما هو متضامن معها، ولكنّه لسبب أو لآخر، ملازمًا بيته، لخوفه من ردّ الفعل الذي يمكن أن يتعرّض له، مع متابعته لمجرياتها في آن.
لشهرٍ خلا، كان اعتقاد السّلطة، أنّها قد أبّدت الوعي على ما رسمته، طائفيّا، مذهبيّا، مناطقيّا، أحيائيّا، عشائريّا وعائلاتيّا، وربطته بالخوف من الآخر، والتضادّ معه، سواء بين عائلة ونظيرتها، أو عشيرة ومثيلاتها، أو منطقة وشبيهتها، أو طائفة ونقيضتها، ومذهب وخلافه من المذاهب، وربطت كلّ ذلك بزعامة هرميّة، مترابطة عاموديّا، تتدرّج من الأعلى إلى الأدنى، من المتركّز على هرم السلطة وسؤددها، إلى المتمركز في الشارع وبؤسه.
أصاب السّلطة الغرور، مختالة بنفسها اعتقادًا بانّها معبودة الجماهير (على مثال تسمية الممثلة المصريّة شادية)، تأمر وتنهي، ترغي وتزبد، تبيع وتشتري، تفصّل فتُلبِس، تغنم وتوزّع الفتات، محتفظة بالغالي والنفيس، وما غلا ثمنه وخفّ حمله، عائثة بمقدرات البلاد والعباد على هواها، متناسية أنّه على الأرض التي تتسلّط عليها بشر، ولهم كرامات باتت في الحضيض، لتتفاجأ بُعَيد اطمئنانها، بين يومٍ وليلة، انّ شبابًا، ولدوا بين ظهرانيها، احتلّوا الشوارع والساحات والمدن والقرى وتقاطعات الطّرقات، ينادون باستعادة كراماتهم المسلوبة، ومعها كلّ حقوقهم، ويطلبون محاسبتها، عما اقترفته بحقهم وبحقّ البلاد والعباد، وبحقّ آبائهم وأجدادهم، الذين كانوا، حتى الأمس القريب، خلدوا استكانة مستسلمين لأقدارهم.
اكتشف الشباب المشتركات بينهم، من قوّة وبأس ومصير وتأثير، حوّلوها إلى ثورة عارمة، حكموا بلغتهم الشارع، فاضوا احتجاجًا واعيًا على السّلطة، نازعين عنها شرعيتها، وحّدوا شعاراتهم، بسرعة قياسيّة، لم تعهدها أجيال من قبلهم، نازلوا السّلطة بكفاءة، أرهقوها – وهي لم تعهد هكذا نوع من المنازلات – فخطبت فيهم مرة، ومرتين، وثلاث، ورباع…ناخت بكل ثقل خطابها السياسيّ عليهم، فلم تجد صدى راجعًا لكلامها سوى أنّ "كلّ السلطة لنا"، و"فاتكم القطار"…
غابت عن السّلطة مسائل كثيرة، انّها تقارع جيلا بذاكرة مغايرة تماما عن ذاكرتها، بفرديّة قياديّة (Individual leadership)، لا إمكانيّة للسلطة على الإحاطة بها، أو القبض عليها (على طريقة "ضرب الرأس، ضرب الكلّ")، فكلّ شابٍّ هو كلّ الشباب، وهو في الوقت عينه فرد، هو شيء يشبه العمل بالسلسلة، مستقى من النظريّة التويوتيّة (Totyotism Theory) ، فإذا فرغ مكان في السلسلة الشّارعيّة، ملأه أي فرد آخر، وعليه قد تقاوم السلطة قليلا أو كثيرا، تقلّل من تنازلاتها او تزيد، لا فرق، الشباب أعلموها بأنّ "أوان الرحيل قد آن"، فإذا لم يكن اليوم، فغدًا او في الذي يليه، هم ليسوا على عجلة من أمرهم، أليس هم الشباب؟