في مثل هذا اليوم:عندما تنحى عبد الناصر ..وعاد تحت ضغط الجماهير
الحوار نيوز – خاص
في مثل هذا اليوم ،التاسع من حزيران عام 1967 ،فوجئت الأمة العربية ،والشعب المصري بشكل خاص ،بالرئيس جمال عبد الناصر عبر شاشة التلفزيون وأثير الإذاعة المصرية ،يعلن تنحيه عن رئاسة الجمهورية وتحمل المسؤولية كاملة عن الهزيمة في حرب الخامس من حزيران.
كان خطاب عبد الناصر في ذلك المساء صادما،فخرجت الجماهير المصرية والعربية الى الشوارع رافضة قرار الزعيم العربي الكبير،ومطالبة بعودته عنه كي لا تكتمل الهزيمة وتحقق إسرائيل أهدافها عسكريا وسياسيا.
قال عبد النصر في خطابه:”لقد تعودنا معاً في أوقات النصر وفي أوقات المحنة، في الساعات الحلوة وفي الساعات المرة، أن نجلس معاً، وأن نتحدث بقلوب مفتوحة، وأن نتصارح بالحقائق، مؤمنين أنه من هذا الطريق وحده نستطيع دائماً أن نجد اتجاهنا السليم، مهما كانت الظروف عصيبة، ومهما كان الضوء خافتا..”.
وأضاف:”نصل الآن إلى نقطة هامة في هذه المكاشفة بسؤال أنفسنا: هل معنى ذلك أننا لا نتحمل مسؤولية في تبعات هذه النكسة؟ وأقول لكم بصدق -وبرغم أية عوامل قد أكون بنيت عليها موقفي في الأزمة- فإنني على استعداد لتحمل المسؤولية كلها، ولقد اتخذت قراراً أريدكم جميعاً أن تساعدوني عليه: لقد قررت أن أتنحى تماماً ونهائياً عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدي واجبي معها كأي مواطن آخر”.
شكلت هذه السطور من خطاب الرئيس عبد الناصر صدمة هائلة للجماهير في مصر، وفي دول عربية أخرى عديدة من المحيط إلى الخليج، وكانت مصارحة جاءت متأخرة لشعب مصر بعد خداعهم لأيام بأخبار انتصارات وهمية، وقبلها بسنوات من التصريحات الوردية.
الشاهد الوحيد
كتب هذا الخطاب الكاتب الصحفي الكبير الراحل محمد حسنين هيكل، الذي كان أحد أقرب أصدقاء عبد الناصر، وكان شاهدا مقربا على أحداث هذه الأيام التاريخية الحزينة، والتي رواها بعد ذلك بتفاصيلها الدقيقة في كتابه “الانفجار”، وحلقاته التلفزيونية وأشهرها برنامجه “مع هيكل..تجربة حياة” الذي كانت تذيعه قناة الجزيرة.
مساء الخميس 8 يونيو/حزيران 1967، تحدث عبد الناصر مع هيكل، أخبره بتطورات الأوضاع وأنه قد نوى تقديم استقالته، وكلفه بكتابة الخطاب الذي سيلقيه في اليوم التالي للجماهير معلنا تنحيه عن حكم مصر.
أقسى ما كتبه هيكل
روى هيكل أن الظروف قضت أن يكون هو الشخص الوحيد الذي قضى يوم الجمعة 9 يونيو/حزيران مع ناصر، من السابعة صباحا حتى السادسة مساء، حيث توجه في الصباح الباكر إلى عبد الناصر، ومعه مسودة الخطاب الذي كلفه به.
يقول هيكل إنه قضى أصعب ليلة في حياته يصوغ كلمات صعبة سيسمعها الملايين بعد ساعات، ووصف هيكل هذه الليلة: “كانت تلك تجربة في الكتابة من أقسى ما عانيت في حياتي، وقد ظللت معها ليلة كاملة دون نوم، تحت وطأة هم الكلمات، وقبلها هموم الحوادث”.
يضيف أنه وجد الرئيس عبد الناصر في مكتبه، يتحدث هاتفيا مع المشير عبد الحكيم عامر، يناقشان معلومات عن محاولة لعبور القوات الإسرائيلية غرب القناة عبر جسور متصلة، استمع هيكل للمحادثة وبدا أنه يريد أن يدلي برأيه، فاستوقف ناصر عامر وطلب أن يسمعه، فقال هيكل أنه يرى أن هذه المعلومات تبدو غير دقيقة، فقد حققت إسرائيل أكثر مما تريد بالفعل.
قال له ناصر إن عامر ضيع أعصابه، وضيع جيشه من قبلها، ثم استطرد:”ولكنني المسؤول لا أستطيع أن ألوم أحدا إلا نفسي، الواقع أنني غاضب من نفسي بأكثر مما يتصور أحد”.
بدران أم محيي الدين
اعترض هيكل على اقتراح ناصر أن يتولى وزير الحربية شمس بدران منصب رئيس الجمهورية المؤقت، لأن الناس فقدت الثقة في هذه المجموعة كلها، فإذا أصبح الرجل الذي كان وزيرا للحربية رئيسا فالصدام قادم لا محالة.
وبحسب روايته، يقول هيكل إنه أثنى على قرار استقالة ناصر. قال له بصراحة إن المنطق الطبيعي أن تعود الأمور للشعب، رئيس مؤقت، ثم استفتاء على دستور جديد وأساس جديد وبرنامج يلبي مطالب مرحلة مختلفة.
سأله ناصر من يرشح لخلافته؟ فجاوبه هيكل بسؤال: من الأقدم بين باقي أعضاء مجلس قيادة الثورة؟.. فرد: زكريا محيي الدين. واتفق معه هيكل أنه الأحق لخلافته المؤقتة.
طلب الرئيس من هيكل أن يقرأ نص ما كتبه، ظل يصغي صامتا حتى وصل إلى جملة “أنا على استعداد أن أتحمل نصيبي من المسؤولية”، فاعترض عبد الناصر لأنه يتحمل المسؤولية كاملة، ولا يرى مجالا لتجزئتها. أعاد هيكل صياغة الجملة على الفور، وعلق ناصر: “تلك هي الحقيقة، وهذا أدق وأكرم”، والرواية أيضا لهيكل.
هيستريا ودموع
طلب ناصر أن يذهب هيكل بنص الخطاب إلى سامي شرف سكرتير الرئيس. قرأ شرف الخطاب بسرعة حتى وصل لفقرة التنحي، انتابته الهيستريا، وراح يصرخ بصوت عال: “هذا مستحيل.. ثم أنه حرام.. وأنها مصيبة لا تقل عن المصيبة العسكرية”.
قرأه الموظف المسؤول عن طباعة الخطاب على الآلة الكاتبة عبد الرحمن سالم، وعندما وصل لفقرة التنحي انفعل بالبكاء، وراحت دموعه تتساقط على الورق، ثم رفض كتابة الخطاب وغادر الغرفة.
تحدث هيكل لشرف أن عليهم أن يسهلوا الأمر على ناصر، فالرجل في محنة وليس أمامه إلا ما اختاره، “إما أن نسهل له قراره، وإما أن ندفع بأعصابه إلى الانهيار”.
تقديرات ما قبل الخطاب
عندما عاد هيكل بنص الخطاب، طلب منه أن يقرأ عليه الخطاب حتى يتعود عليه، وقدر وقته بنحو ثلث الساعة، وقال لهيكل إن الناس لا بد أن تعرف الحقيقة وما حدث، “الحقيقة لا بد أن تكون واضحة للناس”، وخاصة زكريا محيي الدين الذي كتب عليه أن “يشيل العبء”.
قدر عبد الناصر أن عامر سيتفاجأ بقرار اختيار محيي الدين، وتمنى أن يتصرف عامر كرجل مسؤول، وألا يخلق المشاكل لزكريا بأي حماقات من شلته، على حد وصف هيكل في كتابه “الانفجار”.
وأضاف عبد الناصر لهيكل أن المرحلة التالية تحتاج لمؤتمر قمة عربي، ولا بد من موقف عربي موحد،”إما أننا أمة واحدة، وإما أننا نتحدث عن وهم. إما أن تقدر هذه الأمة على تحقيق ما تريد وإما أن تقبل بالاستسلام لإسرائيل ومن وراءها”.
أكثر من أخ
عرض عبد الناصر على هيكل أن يذهب معه إلى قصر القبة كي يكون إلى جواره وقت إلقاء هذا البيان التاريخي، آخر خطابات عبد الناصر كما هو مفترض، لكن هيكل اعتذر وطلب من الرئيس أن يعفيه، فذلك أكثر مما يمكنه احتماله، على حد قوله، ففاضت مشاعر الرئيس وقال لهيكل إنه كان معه أكثر من أخ، ولا يعرف ماذا سيحدث في الساعات التالية، وإذا كانا سيلتقيان ثانية أم أنه اللقاء الأخير.
ويصف هيكل آخر دقيقة من لقائهما في هذا الوقت العصيب، عندما تصافحا لمح هيكل في عيني ناصر دمعة لأول مرة في حياته، واستدار هيكل ليهرع مغادرا المكتب، فلم يكن يريد للرئيس أن يرى دمعة مماثلة في عينه.
فورة الشارع
بعد إلقاء الخطاب، اشتعلت القاهرة بالتظاهرات. خرجت الجماهير في الشوارع ترفض تنحي عبد الناصر وتهتف باسمه، وتوالت الاتصالات بعبد الناصر ترفض استقالته، وهو رفض عربي شعبي خشية أن تتحول الهزيمة العسكرية إلى هزيمة سياسية شاملة تكسر إرادة العرب، ليتراجع عبد الناصر عن قراره في اليوم التالي، تاركا المصريين بين فرح بعودته، وبين من يعتقد أن الأمر ما هو إلا مجرد مسرحية من الزعيم ومساعديه من أجل البقاء في السلطة رغم الهزيمة .
في العشر من حزيران ألقى أنور السادات خطاب العودة ي مجلس الشعب المصري: