في قراءة قانونية هادئة وشاملة وموثّقة. القانوني الدولي الدكتور داود خيرالله ل “الحوارنيوز”: المحكمة ليست مصدرا موثوقا للعدالة.
حقيقة من إغتال الرئيس رفيق الحريري هي الهدف الرئيسي لملاحظات وقراءات الخبير الدولي الدكتور داود خيرالله في كل ما يتعلق بالمحكمة الخاصة بلبنان منذ نشأتها وصولا لما آلت إليه الآن.
مقاربة علمية وقانونية ووطنية في مقابلة شاملة ل "الحوارنيوز" مع أستاذ القانون الدولي في جامعة جورج تاون في واشنطن الدكتور داود خيرالله، بعد انتهاء المحاكمات ودخول قضاة غرفة الدرجة الأولى مرحلة المذاكرة تمهيدا لإعلان الحكم.
"كيف لقاضي الحكم الّذي يدّعي المهنيّة والنزاهة والتزام أعلى المعايير في الإجراءات الجنائية أن يكوّن قناعة لا يرقى إليها الشك إستناداً إلى أدلّة ظرفيّة مصدرها مؤسسة كانت أثناء التحقيق وكراً لشبكات التجسّس والتلاعب بالهواتف والإتصالات، وأن يتجاهل الفجوات الفاضحة في تحقيق لم يستجوب فيه متّهم، ولا أثر لبصمات او حمض نووي أو شاهد ثقة أو أي دليل حسّي لأيّ من المتهمين بالرغم من الصلاحيّات الواسعة والكفاءات الفنيّة الدوليّة التي كانت متوافرة للجنة التحقيق ومن بعدها المحكمة الخاصة"؟
سؤال للدكتور خيرالله، ينطوي على الكثير من الأجوبة والحقائق ومن الوجع والخوف على سيادة أهدرها بعض اللبنانيين لمصلحة دول خارجية بحجة الحقيقة، والمفارقة ان عددا من هذه الدول التي عملت لإنشاء المحكمة، لم تتعاون معها حيث صدف أن الأقمار الإصطناعية التي تديرها كانت بمجملها معطلة لحظة الإغتيال المشؤوم!!
ويرى الدكتور خيرالله أنه "بالنظر إلى الأخطاء والتجاوزات التي شابت إنشاء المحكمة وسلوكها، وكذلك المخالفات وغياب المهنيّة عن عمل لجنة التحقيق الدوليّة، لم تعد المحكمة الخاصة بلبنان تستطيع بلوغ الهدف المبرّر لوجودها، أقلّه بنظر غالبيّة اللبنانيّين".
النص الكامل لمقابة "الحوارنيوز"
س: لا شك أن المحكمة التي نشأت خلافا لكل المعايير والأصول، باتت أمرا واقعا مفروضا على لبنان. السؤال: هل لمحكمة قامت على أسس سياسية أن تنتج عدالة؟
ج: أرى في السؤال الاول مسائل جوهريّة ثلاث تستحق تناولها ببعض التفصيل وهي
:أ) مخالفة القواعد المألوفة والمعايير التي اتبعها مجلس الأمن في انشاء المحاكم الجنائية الدولية؛
ب) ما إذا كانت المحكمة الخاصة بلبنان تشكّل أمراً واقعاً مفروضاً على لبنان؛ ج) وما إذا كانت المحكمة التي قامت بدوافع ولتحقيق أهداف سياسيّة يمكن أن تكون مصدراً لمعرفة الحقيقة وبلوغ العدالة، وسوف أجيب عليها بالترتيب الذي وردت فيه وباقتضاب بشأن التفاصيل وليس بالنسبة لما أعتبره حقائق وأدلّة جوهريّة يجب نقلها إلى القارئ.
أ) لم يسبق للأمم المتّحدة أن اتخذت إجراءات قضائيّة مماثلة لما اتخذته بشأن جريمة اغتيال الرئيس الحريري، لا قبل ارتكاب هذه الجريمة ولا بعده. فالمحكمة الخاصة بلبنان أقيمت خدمة لمصالح خارجية منافية للمصلحة اللبنانيّة وخلافاً للقانون وللمألوف في إنشاء مثل هذه المحاكم على الصعيد الدولي. فهي الوحيدة بين المحاكم التي أقامها مجلس الأمن، الّتي لا تنظر في جريمة ضدّ القانون الدولي وتندرج ضمن الجرائم المنصوص عنها في النظام الأساسي لمحكمة الجنايات الدوليّة، ولذلك تلتزم المحكمة الخاصة بلبنان تطبيق القانون المحلّي للدولة التي وقعت فيها الجريمة، أي القانون اللبناني.
وهي المحكمة الدوليّة الوحيدة التي أساسها القانوني اتفاقيّة ثنائيّة، بين دولة مستقلّة والأمم المتحدة، ولكنّها إتفاقيّة غير مستوفية الشروط القانونيّة لصحّتها، إن لجهة التفاوض بشأنها من قبل الطرف المختصّ، أي رئيس الجمهوريّة حسب الدستور اللبناني، أو لجهة المصادقة عليها من قبل مجلس النواب، كما ينصّ عليه الدستور نفسه.
كما أنّها المحكمة الدوليّة الوحيدة التي، بسبب تعذّر استيفاء الشروط الدستوريّة اللبنانيّة لصحّتها، يلجأ مجلس الأمن، بغية إقامتها، إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي ينصّ على إجراءات لمعالجة أحداث تشكّل تهديداً أو خرقاً خطيراً للسلم والأمن الدوليّين، وكأنّ احترام أحكام الدستور اللبناني يشكّل تهديدا خطيراً للسلم العالمي، إذ يبدو أنّ أصحاب القرار في مجلس الأمن اعتبروا أنّ مراعاة أحكام الدستور اللبناني توازي ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانيّة التي كانت الأساس القانوني الذي لجأ إليه مجلس الأمن في كل ما أنشأ من محاكم جنائيّة دوليّة.
كذلك هي المحكمة الدوليّة الوحيدة التي يلجأ مجلس الأمن إلى الفصل السابع كمبرّر قانوني لإنشائها ولا تتولّى الأمم المتحدة كامل نفقاتها، وذلك لأنّ الجرائم الدوليّة تعتبر جرائم بحق المجتمع الدولي بأسره وليس بحقّ مجتمعٍ بعينه. لكن بالنسبة إلى محكمتنا الخاصة، يترتّب على لبنان تغطية 49% من نفقاتها، وهذا يعني، كما ثبت بالواقع، أنّ العبء المالي الذي يتكبّده اللبنانيّون سنوياً من نفقات المحكمة الخاصة يوازي أو يزيد عن الحصّة السنويّة لجميع المحاكم اللبنانيّة من الموازنة الوطنيّة.
المحكمة الخاصة بلبنان ”تمتاز“ بفرادة مذهلة مقارنة بجميع المحاكم الجنائيّة الّتي أقامها مجلس الأمن، إن لجهة قانونيّة تشكيلها وطبيعة الجرائم التي تنظر فيها، أو لجهة القانون الواجب تطبيقه بشأن هذه الجرائم. ناهيك بالقواعد الإجرائيّة التي اعتمدتها المحكمة، خصوصاً لجهة التستّر على مصادر المعلومات بشأن الأدلّة التي يمكن أن تساق ضدّ المتهمين، فضلاً عن اعتماد سابقة المحاكمة الغيابيّة، الأمر غير المألوف في ممارسة المحاكم الجنائيّة الدوليّة.
٢) القول أنّ المحكمة الخاصة بلبنان باتت أمراً واقعاً مفروضاً على لبنان ليس دقيقاً. يجب على المواطن اللبناني أن يدرك أنّ جميع الإجراءات الدوليّة التي تلت اغتيال الرئيس الحريري، بما فيها المحكمة الخاصة بلبنان، اتخذت استجابة لطلب رسميين لبنانيين، بقطع النظر عن شرعيّة أو حكمة هذا الطلب. فالأساس القانوني للمحكمة الخاصة بلبنان هو اتفاقيّة ثنائيّة بين لبنان والأمم المتحدة تخضع لما تخضع له الاتفاقيّات الدوليّة لجهة التأويل والتعديل وحتّى الإلغاء، في ظروف معيّنة. وانتزاع السيادة اللبنانيّة بشأن جريمة لا شأن للمجتمع الدولي، أو أي مجتمع سوى المجتمع اللبناني بها، قد حصل برضى لا بل بطلب من رسميين لبنانيين مؤتمنين على السيادة الوطنيّة.
هناك اسباب عدّة وأخطاء كثيرة ارتكبت يمكن الرجوع إليها لتفسير ما يعانيه المجتمع اللبناني من تخبّط وضياع بالنسبة إلى تداعيات اغتيال الرئيس الحريري. لكنّ العلّة الأساس في رأيي تكمن في انتزاع السيادة اللبنانيّة والحقّ في ممارسة الرقابة على الإجراءات القضائية التي تلت الاغتيال، أكان في مرحلة التحقيق، السرّي بطبيعته، أو في مرحلة المحاكمة العلنيّة. وهذا ما تسبّب بسيطرة إرادات ومصالح خارجية على إنشاء وتسيير إجراءات قضائيّة لا يمكن للبنانيّين الركون إليها، والاطمئنان إلى استقلال وكفاءة ونزاهة القيّمين عليها.
صحيح أنّ جميع الإجراءات القضائيّة الدوليّة التي اتخذت بشأن اغتيال الحريري كانت بمشيئة خارجيّة ومن أجل بلوغ أهداف لا تمتّ إلى الرغبة في بلوغ العدالة بصلة. لكن على الشعب اللبناني أن يدرك أنّه ما كان لذلك أن يحصل لولا تعاون مسؤولين لبنانيين هم في موقع المؤتمنين على السيادة الوطنيّة. فهؤلاء هم الّذين تنازلوا عن هذه السيادة، وهم الّذين قاموا بتعطيل أحكام الدستور اللبناني وعدم احترام مبدأ فصل السلطات بنزعهم عن السلطة القضائيّة صلاحيّتها، وهي التي لا نقاش في حقّها الحصري، دستوريّاً وبموجب القانون الدولي، النظر في جريمة وقعت على الأرض اللبنانيّة وضحاياها مواطنون لبنانيّون. وهم الّذين ضربوا عرض الحائط بصلاحيّة السلطة التشريعيّة، أقرب السلطات إلى الإرادة الشعبيّة، في المصادقة على الاتفاقيات الدوليّة وعلى الإشراف على جميع مؤسسات الحكم في لبنان، يدفعهم إلى ذلك، إمّا جهل مخجل لمعنى السيادة، أو تواطؤ يلامس الخيانة لما ألحق ويلحق من ضرر بلبنان وشعبه.
السيادة، باختصار، هي ممارسة الحقّ بالاستئثار في الحكم الذاتي. وتقوم الشعوب والدول بحكم ذاتها من خلال ما تختار من قوانين ومؤسسات لتطبيق هذه القوانين، وعلى العالم بأسره احترام هذا الاختيار. فاحترام سيادة الدول هو أحد أهمّ ركائز النظام العالمي، وأساس حقّ الدول في الاستقلال، والشعوب في تقرير مصيرها. وهو كذلك الأساس لواجب الدول في عدم التدخّل في الشؤون الداخليّة للدول الأخرى.
إنّ تخلّي مسولين لبنانيين عن حقّ سيادي في التحقيق بجريمة مروّعة شكّلت ولا تزال تهديداً خطيراً للأمن والاستقرار داخل المجتمع اللبناني دون سواه، كما التخلّي عن حق الشعب اللبناني، من خلال ممثليه في الحكم، في ممارسة الرقابة على صحّة وشفافية التحقيقات والإجراءات التي اتخذت بشأن جريمة اغتيال الحريري، وكفاءة ونزاهة القيّمين عليها، هذا التخلّي هو السبب الرئيس في تعذّر اتخاذ العدالة مجراها، واطمئنان اللبنانيّين إلى تجرّد ونزاهة وكفاءة من قام بالتحقيقات وما يمكن أن يصدر عن المحكمة من أحكام، خصوصاً في ضوء ما أصبح مؤكّداً من تجاوزات في إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان وما شاب التحقيقات من فضائح ومخالفات قانونيّة.
٣) المراقب بدقّة لكيفيّة إنشاء وتنفيذ الإجراءات القضائية بشأن اغتيال الحريري يدرك أنّ دوافع سياسيّة كانت وراءها جميعاً، أكان من قبل الطرف اللبناني أو الدولي، وبالتالي لا مفرّ من الاستنتاج أنّ معرفة الحقيقة وبلوغ العدالة هما الضحيّتان الأولىيان لتسييس الإجراءات القضائيّة. فكيف يمكن في ضوء ما تقدّم الاطمئنان إلى نتائج عمل القيّمين على هذه الإجراءات؟
لا شكّ في أنّ رعاة الإجراءات القضائيّة، بما فيها المحكمة الخاصة بلبنان، والّذين تولّوا تنفيذ هذه الإجراءات، قد دمّروا، بسلوكهم، صدقيّة المحكمة، ودمّروا خصوصاً، ثقة اللبنانيين بها كمصدر للعدالة ولمعرفة الحقيقة بشأن اغتيال الرئيس الحريري والّذين سقطوا معه، أو اغتيلوا من بعده. ففي ظلّ هذا الواقع يصبح من حقّ، لا بل من واجب، كلّ مواطن لبناني أن يتساءل عن جدوى استمرار المحكمة من أجل بلوغ الأهداف التي توقّعها اللبنانيّون من إنشائها. فحتّى تاريخه، وبعد مرور أحد عشر عاما على ممارسة عملها، لم يعرف اللبنانيّون عن المحكمة سوى الأعباء الماليّة التي يتكبّدها المواطن اللبناني سنويّاً، وقد بلغت حتّى تاريخه ما يزيد على النصف مليار دولار. أمّا بشأن إنجازاتها، فلم يتصل بعلم اللبنانيين سوى محاولة المحكمة كمّ أفواه من يجرؤ على مراقبة أعمالها من الإعلاميين اللبنانيين، فضلاً عن قدرتها على زرع التباعد وتعميق الهوّة داخل المجتمع اللبناني.
س: في ضوء ما تقدم من معطيات وحقائق، أي أحكام يمكن أن نتوقعها من مثل هكذا محكمة؟
ج: حتّى لو افترض اللبنانيّون، بالرغم من تجربتهم البائسة مع الإجراءات القضائيّة الدوليّة، أنّ المحكمة يمكن أن تُظهر كفاءة مهنيّة واستقلالاً عن إرادة منشئيها، وهذا احتمال يجب أن يكون وارداً، فما المتوقّع من المحكمة فيما يمكن أن يصدر عنها من أحكام؟
١- يمكن للمحكمة أن تصدر أحكاماً تحقق المآرب السياسيّة لمنشئيها، وهذه توقّعات غالبيّة اللبنانيين من محكمة يعتقدون أنّها لا تتمتّع بالاستقلال عن مشيئة من أقامها، وهي ليست مصدراً موثوقاً للعدالة، فتبني أحكامها على أدلّة ظرفيّة وما راكمت لجنة التحقيق من بيّنات مشكوك في صحّتها.
٢- ويمكن كذلك لقضاة الحكم فيها التزام المعايير الواجب تطبيقها في تقييم شموليّة وقانونيّة التحقيق وقبول البيّنات والأدلّة، وذلك حفاظاً على سمعتهم المهنيّة بالدرجة الأولى، ورغبة منهم في عدم المشاركة في مزيد من تشويه سمعة العدالة الدوليّة، فيعلنون أحكاماً قد تثبت عدم مسؤوليّة المتهمين.
ففي كلا الحالين لن يتحقّق الهدف الّذي يرجوه اللبنانيّون، وهو معرفة الحقيقة بشأن اغتيال الحريري وجميع الّذين سقطوا معه، وخصوصاً الّذين اغتيلوا من بعده. وبالتالي لن تساعد أحكام المحكمة الخاصة بلبنان على رأب الصدع في المجتمع اللبناني الّذي خلّفه اغتيال الحريري وعمّقه سلوك لجنة التحقيق والمحكمة الدوليّة الخاصة بلبنان.
قرينة الاتصالات
س: قدم الإدعاء مذكرته الختامية منذ نحو إسبوع ، مستندا الى دليل الإتصالات؛ هل قرينة الإتصالات كافية كدليل للإدانة؟ وإلى أي نظام قضائي يستند الإدعاء ليطلب الإدانة طالما أن الدليل كان ولا يزال موضع شك الخبراء نظرا لحجم التلاعب به؟
ج: أنّ الأدلّة الظرفية قد تشكّل عاملاً إضافيّاً في تكوين قناعة لا يرقى إليها الشك لدى قاضي الحكم شرط أن تكون دون شائبة بالنسبة لصحتها وطريقة الحصول عليها. ولكن قبل ذلك كلّه على قاضي الحكم أن ينظر في جميع الوقائع والإجراءات لجهة اكتمال وشموليّة التحقيق ودرجة الكفاءة والموضوعيّة التي مورست من قبل المحققين في تقصّي الحقائق والوقائع والأدلّة لبلوغ استنتاجات يمكن الركون إليها. فهل يمكمن لعاقل أن يطمئنّ لمهنيّة وموضوعيّة وكفاءة وتجرّد القيّمين على التحقيق وعلى جميع الإجراءات القضائيّة بدءاً بلجنة تقصي الحقائق وحتّى هذه المرحلة من اعمال المحكمة الدوليّة؟
الدوافع والأهداف التي حملت مجلس الأمن على اتخاذ الإجراءات القضائيّة، والتي لا تمتّ إلى السعي لبلوغ العدالة بصلة، لا تقتصر على فرادة المحكمة الخاصة بلبنان. فالأخطاء الجسيمة والتجاوزات الفاضحة والمخالفات لقواعد قانونيّة أساسيّة في الإجراءات الجنائية التي ارتكبتها لجنة التحقيق الدوليّة، التي تولّت التحقيق في أولى مراحله وربما أهمّها، لا تدع مجالاً للشك في الأخطاء وفي الدوافع السياسيّة وراء جميع الإجراءات القضائيّة التي اتخذها مجلس الأمن بشأن اغتيال الرئيس الحريري والذين سقطوا معه أو اغتيلوا من بعده.
فالتسريبات والتقارير التي كانت تصدر عن لجنة التحقيق الدوليّة، خصوصاً في عهد رئيسها الأوّل دتليف ماليس، كانت بمثابة فضائح قانونيّة تدلّ ليس فقط على غياب المهنيّة، لا بل الاستهتار ببديهيّات قواعد التحقيق الجنائي. ففيما كانت تنقله الصحف الأجنبيّة من تسريبات، وكذلك ما تضمّنته التقارير الصادرة عن لجنة التحقيق برئاسة السيّد ماليس، كنّا نقرأ عن أسماء الشهود وعن إفاداتهم أمام المحقّق، وكذلك عن استنتاجات قطعيّة بالنسبة إلى مسؤوليّة الفاعلين، في حين كان التحقيق لا يزال في مراحله الأولى، ما يشكّل مخالفة صارخة لمبدأ سريّة التحقيق المطبّق عالميّاً والمنصوص عليه في قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني الواجب التطبيق من قبل لجنة التحقيق الدوليّة.
كانت لجنة التحقيق تتعمّد نشر هذه المعلومات في تقاريرها للتأثير في توجيه الرأي العام وتضليله ولتوظيفها سياسيّاً في استصدار قرارات مجلس الأمن الدولي الملائمة لأهداف رعاة ومحرّكي الإجراءات القضائية. وكانت المعلومات المنشورة والمسرّبة من لجنة التحقيق مادة دسمة للإستغلال من قبل وسائل إعلاميّة غربيّة مثل لوموند ودرشبيغل وجورزلم بوست وسواها. وكذلك كانت تشكّل مادة للاستغلال من قبل مسؤولين في إسرائيل، وهي المنتفع الأكبر، وربّما الوحيد، من اغتيال الرئيس الحريري والأرجح أنها الفاعل أو المشارك الرئيسي في ارتكاب هذه الجريمة.
تجاوزات واخطاء لجنة التحقيق وأعمالها المشبوهة لم تقتصر على الفترة التي كان يرأسها فيها ديتليف ماليس. فبعد السيّد ماليس ترأس اللجنة السيّد برميتس لفترة وجيزة، ربّما لأنّه فضح وانتقد سلوك وتجاوزات سلفه. بعده جاء السيّد بلمار إلى رئاسة لجنة التحقيق. مع السيّد بلمار لم تتحسّن إطلاقاً الصورة التي تكوّنت عن لجنة التحقيق الدوليّة، إن لجهة مهنيّة العاملين فيها، أو لجهة استقلالها عن مشيئة صانعيها. فحسب مستندات رسميّة، نشرتها ويكيليكس (wikiLeaks) ولم يجر تكذيبها، كان السيّد بلمار يطلب ويتلقّى التوجيهات بشأن مجرى التحقيق من خلال السفارة الأميركيّة في بيروت. والسيّد بلمار نفسه قد أصبح المدّعي العام الأوّل لدى المحكمة الخاصة بلبنان بعد إنشائها وتولّيها متابعة التحقيق الذي كانت لجنة التحقيق الدوليّة تقوم به.
ولعلّ أبشع ما اقترفته لجنة التحقيق الدوليّة من تجاوزات هو سلوكها بشأن الشهادات الكاذبة لشهود الزور والتي كانت الحجّة في توقيف أربعة من كبار الضباط المسؤولين عن المراكز الأمنيّة الأشدّ حساسيّة في الدولة، وكان توقيفهم بحجّة اشتراكهم في عمليّة اغتيال الحريري. استمرّ توقيف الضبّاط الأربعة بشكل اعتباطي لمدّة أربع سنوات تقريباً، دون توجيه أيّة تهمة لهم، ولم تعط اللجنة موافقتها على إخلاء سبيلهم مع علمها الأكيد بكذب شهود الزور وانعدام أيّ مبرّر قانوني لبقائهم قيد التوقيف.
س: لكن المحكمة أخلت سبيل الضباط الأربعة؟
ج: بعد انتهاء عمل لجنة التحقيق الدوليّة، وبعد انتزاع السيادة اللبنانيّة وكفّ يد القضاء اللبناني عن ملفّ اغتيال الحريري وانتقال مسؤوليّته في ذلك الملفّ إلى المحكمة الخاصة، أصبح الاستمرار في توقيف الضباط الأربعة عبئاً تتحمّله المحكمة الخاصة بمفردها، فقامت بإخلاء سبيلهم، ولكنّها رفضت بشكل قاطع النظر بشكوى الضباط، ضحايا شهود الزور، أو التحقيق بمسألة شهود الزور، أقلّه لاكتمال التحقيق لجهة الدوافع وراء الإتيان بهم وعن مسؤوليّة من يقف ورائهم. فإنّ للمحكمة الخاصة، التي تدّعي المهنيّة والتجرّد واستهداف العدالة في كلّ ما تقوم به، مصلحة رئيسيّة لا بل عليها واجب الاطلاع على كلّ واقعة أو دافع وراء شهود الزور، وإلّا كيف يمكن الاطمئنان إلى جدّية اكتمال التحقيق الّذي على قضاة الحكم النظر في كلّ ما يتضمّن من أدلّة لإصدار حكمهم.
لو أضفنا إلى ما تقدّم رفض دول عشر، معظمها كان محرّكاً أساسيّاً في إقامة الإجراءات القضائيّة، التعاون مع لجنة التحقيق والمحكمة الخاصة بلبنان فيما يتعلّق بالتحقيق الذي تقوم به، والزعم أنّ الأقمار الصناعيّة لبعض هذه الدول كانت كلّها، وبصدفة غريبة، معطّلة أثناء وقوع الانفجار الذي أودى بحياة الرئيس الحريري، يصبح من الصعب جدّاً عندئذٍ الاطمئنان إلى استقلال وكفاءة ونزاهة جميع الّذين شاركوا في إنشاء وتفعيل الإجراءات القضائيّة بمنأى عن السيادة والرقابة اللبنانيّة.
كيف لقاضي الحكم الّذي يدّعي المهنيّة والنزاهة والتزام أعلى المعايير في الإجراءات الجنائية أن يكوّن قناعة لا يرقى إليها الشك إستناداً إلى أدلّة ظرفيّة مصدرها مؤسسة كانت أثناء التحقيق وكراً لشبكات التجسّس والتلاعب بالهواتف والإتصالات، وأن يتجاهل الفجوات الفاضحة في تحقيق لم يستجوب فيه متّهم، ولا أثر لبصمات او حمض نووي أو شاهد ثقة أو أي دليل حسّي لأيّ من المتهمين بالرغم من الصلاحيّات الواسعة والكفاءات الفنيّة الدوليّة التي كانت متوافرة للجنة التحقيق ومن بعدها المحكمة الخاصة؟
كيف لقاضي الحكم الّذي يدّعي الكفاءة والموضوعيّة أن يتغاضى عن تحقيق يتجاهل الدوافع التي حملت أطراف من أقرب المقرّبين للرئيس الحريري ومساهمتهم الفاعلة في صناعة شهود الزور، وتجاهل ما هو ثابت من معلومات كسلوك وسام الحسن، المسؤول الأساسي عن أمن الرئيس الحريري وعن توجيه موكبه وذلك بشهادة الساعد الأيمن لرئيس لجنة التحقيق؟
وكيف لقاضي الحكم الذي يعلم، أو يجب أن يعلم، أنّ جميع المخالفات والفجوات، لا بل وتحريف الوقائع منذ اللّحظة الأولى لاغتيال الرئيس الحريري كانت وراءها أطراف تكنّ عداءً شرساً ولها مصالح في الصاق تهمة الاغتيال بسورية وحلفاءها في لبنان؟ بدءاً بتصريحات مسؤولين أميركيّين وإسرائيليّين فور الاغتيال وقبل القيام بأي تحقيق، مروراً بتصريحات رئيس لجنة تقصّي الحقائق قبل القيام بأي تحقيق، وبسلوك ومخالفات وفضائح لجنة التحقيق الدوليّة وما صحبها من حملات إعلاميّة، على المستويات المحلّية والإقليميّة والدوليّة، كل ذلك كان بهدف إلصاق التهم، وبدون أي دليل، بمن تعتبر الولايات المتّحدة وأقرب حلفاءها أنّهم أعداء لها؛
كيف له أن يطمئنّ ويشكل قناعة لا يرقى إليها الشك بناء على أدلّة ظرفية مشكوك بصحّتها؟
وعلى نقيض ذلك كيف لقاضي الحكم أن يطمئنّ إلى نظريّة أن سورية وحلفاءها هم من قام باغتيال الرئيس الحريري دون وجود أي دليل حسّي أو منطقي على ذلك وتجاهل معلومات مصدرها رسميين أميركيّين هم في موقع العارفين، كرئيس اللجنة القضائيّة في مجلس الشيوخ الأميركي وسواه بأنّ المملكة السعوديّة وإسرائيل هما وراء اغتيال الرئيس الحريري؟
إنّ صدور قرار عن المحكمة الخاصة بالإدانة بناء على أدلّة المواصلات الظرفيّة وإهمال كلّ ما سبق ذكره لن يكون خطأً فادحاً فقط، وإنّما قد يدفع البعض إلى اعتبار قضاة الحكم مشاركين في تضليل العدالة عن معرفة الفاعل ومحاسبته.
س: الإنقسام اللبناني حيال المحكمة قائم وبقوة لاسيما وأن الإستهداف السياسي وما تلاه من إستهداف قضائي يسير بإتجاه أحد أبرز المكونات اللبنانية؛ بماذا تنصح الدولة اللبنانية كي يتجنبوا الكأس المرة التي تتحضر من خلف أبواب المحكمة؟
ج: كلّ عمل يقيّم بأهدافه وبالوسائل المعتمدة لبلوغ هذه الأهداف. والهدف المعلن لإنشاء المحكمة الخاصة بلبنان، والدافع الرئيس لقبول الشعب اللبناني بقيامها، هو أن تأخذ العدالة مجراها في اكتشاف الجناة ومحاكمتهم من قبل جهاز قضائي يتمتّع بما يلزم من الكفاءة والنزاهة والقدرة على إحقاق الحقّ.
بالنظر إلى الأخطاء والتجاوزات التي شابت إنشاء المحكمة وسلوكها، وكذلك المخالفات وغياب المهنيّة عن عمل لجنة التحقيق الدوليّة، لم تعد المحكمة الخاصة بلبنان تستطيع بلوغ الهدف المبرّر لوجودها، أقلّه بنظر غالبيّة اللبنانيّين. هذا ما أثبتته استطلاعات الرأي التي جرت قبل وبعد صدور القرار الاتهامي للمحكمة الخاصة. فقد أضحى استمرارها يشكّل مانعاً من توحّد المجتمع، واستنزافاً ماليّاً لا مبرّر له ولا طاقة للبنان على تحمّل تبعاته. فبالنظر إلى الانقسام الحاد في المجتمع اللبناني حول المسؤوليّة عن اغتيال الرئيس الحريري والّذين سقطوا معه، أو من بعده، وذلك نتيجة الحملة الإعلاميّة الضخمة التي رافقت اتخاذ الإجراءات القضائيّة، وبهدف تعميق الشرخ بين اللبنانيين، فضلاً عن سلوك القيّمين على تنفيذ هذه الاجراءات، بات لا بدّ من العمل من أجل عودة الثقة لدى الشعب اللبناني بالإجراءات القضائيّة وبالقيّمين على تنفيذها. بلوغ ذلك يقتضي استعادة السيادة اللبنانيّة بشأن تنفيذ الاجراءات القضائيّة، أي الرقابة من قبل حقوقيّين لبنانيّين يتمتّعون بثقة كافة أطياف الشعب اللبناني.
لذلك نرى أن على السلطات اللبنانيّة اتخاذ الإجراءات القانونيّة اللّازمة، قبل أو بالتزامن مع أيّ طلب من مجلس الأمن، القيام بتأليف لجنة قوامها حقوقيّون مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة، ويمثّلون الطوائف والتوجّهات السياسيّة الرئيسيّة في لبنان، مهمّتها الاطلاع على كافة البيّنات والأدلّة التي توافرت للمحكمة الخاصة بلبنان، والإشراف على سدّ الثغرات في التحقيق، إذا وجدت، وعلى متابعة تنفيذ الاجراءات القضائيّة بما فيها محاكمة المتّهمين كائناً من كانوا.
الشرط الوحيد للنجاح في توحيد المجتمع وتجنب الأثار السلبيّة لعمل المحكمة يكمن في وعي المسؤولين اللبنانيّين لما يشكّل مصلحة وطنيّة أساسها الرغبة في معرفة الحقيقة بالنسبة إلى مرتكبي جريمة اغتيال الحريري وجميع الّذين سقطوا معه، أو اغتيلوا من بعده. وكذلك العمل على استعادة وحدة المجتمع وتفشيل جهود الأطراف الخارجيّة المعاديّة للمصلحة اللبنانيّة في تعميق الشرخ بين اللبنانييّن. إن هذا الوعي يجب أن يشكّل الدافع لتوحّدهم في المطالبة باستعادة حقّ سيادي ما كان من مبرّر للتنازل عنه؛ كما إعادة الاعتبار للقضاء اللبناني الّذي شُوّهت سمعته من أجل تبرير قيام المحكمة الخاصة، فضلاً عن وقف النزف المالي الّذي يشكّله استمرار عمل المحكمة.
س: ما هي الحجج التي يمكن الاستناد إليها لإقناع مجلس الأمن بوجوب استعادة السيادة اللبنانيّة بشأن الإجراءات القضائيّة ومعالجة تداعيات اغتيال الرئيس الحريري؟
ج: الأساس القانوني للمحكمة الخاصة بلبنان هو اتفاقيّة ثنائيّة بين لبنان والأمم المتحدة غير مستوفية الشروط الدستوريّة، وقد أنشئت بناء لطلب من سلطة لبنانيّة، بقطع النظر عن شرعيّة طلبها. فاغتيال الرئيس الحريري كان له وقع عظيم على اللبنانيين، لكنّه لا يشكّل جريمة في القانون الدولي كجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانيّة، وهي المبرّر الوحيد لإقامة محاكم دوليّة. والمحاكم الجنائيّة التي أنشأها مجلس الأمن تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، كالمحاكم التي قامت على أثر الحرب التي أدّت إلى تفكك يوغسلافيا، والحرب الأهلية في روندا، سقط فيها عشرات لا بل مئات الألاف من الضحايا وارتكبت فيها جرائم حرب وجرائم مروّعة ضد الإنسانيّة، تمادت في الزمان والمكان وهزّت الضمير العالمي في حينه. هذا مثال للمحاكم التي أقامها مجلس الأمن منفرداً واستناداً إلى الفصل السابع من الميثاق وقد تولّت الأمم المتحدة جميع نفقاتها.
أمّا جريمة اغتيال الرئيس الحريري فهي تعني المجتمع اللبناني وحده، ولا تشكّل جريمة حرب ولا جريمة ضدّ الإنسانيّة كان لها وقعها على شعوب ومجتمعات العالم، وكانت المحرّك لهذه المجتمعات لإقامة المحكمة الخاصة بلبنان. فالمحكمة الخاصة بلبنان أقيمت بإرادة بعض الدول الصديقة لإسرائيل، ولأسباب لا تمتّ إلى السعي لبلوغ العدالة بصلة. وسوف يكون من الصعب على مجلس الأمن الدولي المضيّ في دعم عمل المحكمة، لو طلب لبنان وقف العمل بالاتفاقيّة الثنائيّة بينه وبين الأمم المتحدة، غير المستوفية الشروط الدستوريّة لصحتها. فحيثيّات قرار مجلس الأمن رقم 1757 المنشئ للمحكمة الخاصة بلبنان تشير إلى إفادة المستشار القانوني للأمم المتحدة بشأن ”العقبات الدستوريّة الجديّة التي يواجهها إنشاء المحكمة“. وكذلك المادة 19 من الاتفاقيّة بين لبنان والأمم المتّحدة في فقرتها الأولى تنصّ على ”أنّ الاتفاقيّة تدخل حيّز التنفيذ في اليوم الّذي يلي إفادة الحكومة اللبنانيّة الأمم المتّحدة بأنّ الشروط القانونيّة لنفاذ الاتفاقيّة باتت متوافرة“. ولكن الاتفاقيّة اعتُبرت نافذة بالرغم من عدم توافر الشروط القانونيّة لنفاذها.
إتفاقية فيينا
إنّ إيقاف العمل بالاتفاقيّة بين لبنان والأمم المتّحدة، التي هي الأساس القانوني للمحكمة الخاصة بلبنان يمكن أن يحصل بموافقة الطرفين وهذا مبدأ عام متفق عليه في القانون الدولي ومنصوص عنه في المادة 57 من اتفاقية فيينّا بشأن قانون المعاهدات، ويمكن كذلك إنهاء العمل بها ”لظهور حالة تجعل التنفيذ مستحيلا“(المادة 60 ) أو ”لتغيير جوهري في الظروف“ ( المادة 62 ) من نفس الاتفاقيّة.
س: هذا يعني، دكتور خيرالله، إن إنهاء عمل المحكمة الخاصة مرتبط بإجراءات قانونية؟
ج: إنّ بقاء المحكمة الخاصة أو زوالها غير مقيّد بروابط قانونيّة أو حتّى بإرادة دول خارجيّة، مهما بلغ اقتدارها على المستوى الدولي، بقدر ما هو منوط بوحدة الصفّ اللبناني في وعيه المصلحة الوطنيّة، وبالتالي المطالبة بإنهاء عمل المحكمة وتحويل ما توافر لديها من أدلّة وبيّنات إلى من تُعيّن الدولة اللبنانيّة من سلطة لتلقّي هذه المعلومات ومتابعة تنفيذ الإجراءات القضائيّة. إذ ما كان للمحكمة الخاصة بلبنان أن تنوجد لولا سلوك بعض المسؤولين اللبنانيّين، عن جهل، وبالتالي عن حسن نيّة، أو عن معرفة بمضاعفات التنازل عن السيادة الوطنيّة، وبالتالي عن سوء نيّة تلامس الخيانة لما ألحقت ولا تزال تلحق من أضرار بلبنان.
هناك من سيقول، وبحقّ، أنّ مثل هذا الاقتراح يأتي متأخّراً وكان على السلطات اللبنانيّة أن تقوم به منذ سنوات وليس بعد انتهاء المحاكمات وقبيل صدور الحكم. هذا صحيح وقد قمت باقتراح مماثل منذ ثمان سنوات في مقال لي بعنوان ”المحكمة الدوليّة وواجب تأليف هيئة وطنيّة مساعدة“ نشر في جريدة الأخبار في 24/8/2010. لكن عدم القيام بذلك في حينه، وبقطع النظر عن الأسباب التي منعت من القيام بعمل جدّي بهذا الشأن، يجب أن لا يفرض استسلاماً دائماً لحالة الشلل الّتي كانت ولا تزال سائدة في المجتمع اللبناني والاستمرار في تمكين القوى المعادية للمصلحة الوطنيّة في بلوغ أهدافها في شقّ وتعميق الشرخ داخل المجتمع اللبناني وحرمانه من استعادة سيادته، وبالتالي مناعته وقدرته على الدفاع عن حقه ومصلحته في معرفة الحقيقة ومحاسبة المسؤولين الفعليّين عن اغتيال الرئيس الحريري والّذين سقطوآ معه أو اغتيلوا من بعده.
فبقدر ما يدرك اللبنانيّون بأنّ المحكمة الخاصة بلبنان لن تكون مصدراً لمعرفة الحقيقة وبلوغ العدالة بهذا الصدد، وبقدر ما يستوعب اللبنانيّون تداعيات الخطاء الجسيم الّذي ارتكب في التخلّي عن السيادة الوطنيّة لمصلحة قوى وأطراف خارجيّة لا تكنّ الخير للبنان وشعبه، بالقدر نفسه تنمو الرغبة في العمل على التعبير عن مشاعرهم وإرادتهم في الدفاع عن المصلحة الوطنيّة في الوحدة وفي معرفة الحقيقة وبلوغ العدالة.
س: ما تقترحه يتطلب وعيا لبنانيا ويفترض مسؤولية وجرأة في آن؟
ج: نعم، فمن أجل التعبير عن وعي للمصلحة الوطنيّة والإرادة في الدفاع عنها، يجب تكثيف العمل الإعلامي بالدرجة الأولى، من قبل النخب اللبنانيّة الواعية لهذه المصلحة في نشر هذا الوعي بين اللبنانيّين وفي الضعط على السلطات السياسيّة للقيام بما يجب محليّاً ولدى السلطات الدوليّة. فتحرّك السلطات السياسيّة يكون أكثر فاعليّة عندما يكون انعكاساً لإرادة شعبيّة وحيويّة اجتماعيّة. ثمّ أنّ مثل هذا النشاط الشعبي والعمل من قبل السلطات اللبنانيّة سوف يكون له الأثر الفاعل في الرأي العام المحلّي والإقليمي والدولي وسوف يفرض حذراً أكبر وجدّية على سلوك وقرار قضاة الحكم في المحكمة الخاصة بلبنان.
ما من دولة مستقلّة، يعي شعبها وخصوصاً مسؤولوها معنى السيادة والاستقلال، تقبل بالتنازل عن سيادتها لأطراف خارجيّة في تطبيق قوانينها على أراضيها فيما من شأنه أن يهدّد أمنها واستقرارها كما فعل لبنان. فالمحاكم الجنائيّة الهجينة التي أقامها مجلس الأمن على شكل المحكمة الخاصة بلبنان، كانت بالدرجة الأولى من أجل محاكمة مسؤولين عن جرائم ضدّ القانون الدولي كجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانيّة، وفي دول اعتُبرت فاشلة ومنقوصة السيادة. والإصرار من قبل دول مقرّرة في مجلس الأمن، أو أطراف لبنانيّة، على استمرار المحكمة الخاصة في عملها هو بمثابة إصرار على اعتبار لبنان دولة فاشلة غير مكتملة السيادة، وهو كذلك تجاهل لكون العدالة ومعرفة الحقيقة هما الضحيّتان الأولىيان لتسييس الإجراءات القضائيّة. وهذا الإصرار يوازي الرغبة في تعزيز الاعتقاد لدى اللبنانيين بأنّ الإجراءات القضائيّة التي اتخذها مجلس الأمن، بما فيها إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان، كانت بهدف تعميق الهوّة بين اللبنانيين وإعاقة مجرى العدالة، لا بل تضليلها.
رسالتي إلى المجتمع الحقوق اللبناني
س: ما هي رسالتك للسلطة القضائية اللبنانية؟
ج: رسالتي ليست موجّهة إلى السلطة القضائيّة بذاتها، وإنّما إلى المجتمع الحقوقي اللبناني بأكمله، أي القضاة والمحامين وكليّات الحقوق ونقابات المحامين جميعاً. فالأخطاء الجسام التي ارتكبت بحقّ لبنان ووحدته وأمنه واستقراره من خلال انتزاع سيادته، ومخالفة دستوره بالتنازل عن سلطة قضائيّة كرّسها الدستور، وكذلك الاستهتار بمؤسساته وعلى رأسها السلطة التشريعيّة وحقّها في الموافقة على الاتفاقات الدوليّة، كلّ تلك الأخطاء تتحمّل وزرها، وبالدرجة الأولى، النخب الحقوقيّة في لبنان. فقد دخلت هذه النخب في غيبوبة تامة أثناء ارتكاب هذه الأخطاء، لا بل الجرائم، بحق لبنان وأمنه واستقراره. وبعض هذه النخب انخرط في عمليّة التأليب والاصطفاف الطائفي والمذهبي الضامن للتمزيق الاجتماعي والذاهب بوحدة المجتمع ومناعته وقدرته على مقاومة الضغوط الخارجيّة وبالتالي تسهيل تحقيق المصالح الخارجيّة المناقضة للمصلحة الوطنيّة.
فإذا كانت النخب الحقوقيّة لا تعي معنى السيادة الوطنيّة وأهميّة الحفاظ عليها وممارستها بفعاليّة وتكون في طليعة المدافعين عنها، فمن داخل الوطن يمكن الرجوع إليه للقيام بذلك؟ وإذا كانت النخب الحقوقيّة لا تدرك أهمّية احترام المؤسسات الدستوريّة والحرص على أن تقوم بوظائفها بفعاليّة فإلى من يمكن إيكال هذه المهمّة؟
س: بعض المؤسسات الحقوقيّة تدّعي أنّها آثرت التزام الحياد إزاء الانقسام الحاد داخل المجتمع كي تتجنّب المساهمة في مفاقمة هذا الانقسام؟
ج: هذا منطق مريض. لا بل العكس هو الصحيح. فسكوت أصحاب الضمير المدركين للمصلحة الوطنيّة والأضرار التي سوف تلحق بالوطن نتيجة ارتكاب هذه الأخطاء، بما في ذلك تدمير وحدته، هو المشاركة الفاعلة في استفحال الضرر ومفاقمة الانقسام. وهذا ما حصل فعلاً وما يعاني منه اللبنانيّون.
التزام الحياد حيال الاعتداء على السيادة الوطنيّة والمؤسسات الدستوريّة ليس من شيم الوطنيّين من رجال القانون، ولا هو بالعذر المقبول. فالنخب الحقوقيّة تتحمّل، ويجب أن تعي بأنّها تتحمّل، وزر ما آلت إليه الأمور في لبنان نتيجة هذه الأخطاء. وعليها أن تظهر حيويّة وأن تكون في طليعة العاملين على إصلاح ما يمكن إصلاحه من هذه الأخطاء.
مؤسف جداً، لا بل مدعاة إحباط، أن لا يكون المجتمع الحقوقي في لبنان هو في طليعة النخب اللبنانيّة العاملة، بفعاليّة، على علاج العلل الأساسيّة التي يشكو منها لبنان، كالطائفيّة الضامنة للتفكّك الاجتماعي الذاهب بمناعة الوطن وقدرته على مواجهة التحديّات، خارجيّة كانت أم داخليّة. فالانقسام الذي يعاني منه لبنان والّذي زاد عمقاً واتساعاً بعد اغتيال الرئيس الحريري ما كان ليحصل، بالرغم من الجهود التي بذلها إعلام موجّه من قوى خارجيّة لا تريد الخير للبنان، لو أنّ مؤسسات الدولة القوميّة، أي الدولة الحديثة، وجدت من يرعاها ويعمّق جذورها في لبنان وينمّي فعاليّتها في تذويب المكوّنات الطائفيّة وكافة الهويّات البدائيّة التي تشكل مانعا من وحدة المجتمع ونموّه. ما كان الانقسام ليحصل لو أنّ بناة الدولة عملوا على تأسيسها في إطار عقد اجتماعي يكون هو الجاذب الأساسي لولاء جميع المواطنين والضامن لوحدة الوطن وأمنه واستقراره، وتكون السيادة ويكون الحكم هو للقانون المعبّر عن مصلحة الوطن والحافظ لحقوق جميع المواطنين. فمن من النخب اللبنانيّة هو أكثر أهليّة من المجتمع الحقوقي ليتولّى، بداية، نشر الوعي لأهميّة وضرورة هذا التغيير، والقيام بما يلزم لبناء مؤسسات تعزّز وحدة المجتمع ومناعته في وجه أيّة إرادات وضغوط خارجيّة؟
وإذا نظرنا إلى الفساد، العلّة الأخرى والآفة التي يعم انتشارها معظم، إم لم يكن كافة، مؤسسات الدولة. هذه الآفة التي بطبيعتها تدفع إلى شلل وتفكّك كلّ مؤسسة تطالها وتحرفها عن الهدف الّذي من أجله وجدت. المؤكّد والثابت في جميع الدراسات العلميّة أن السلاح الأفتك والأفعل في محاربة الفساد هو التزام حكم القانون وتفعيل مؤسسات تطبيق القانون. فمن هي النخب اللبنانيّة الأكثر أهليّة من النخب الحقوقيّة للقيام بذلك.
لقد تعمّدت توسيع دائرة المجالات التي تتطلّب النشاط والعمل الدؤوب الهادف للمجتمع الحقوقي في لبنان عسى أن يدفع ذلك بعض الحقوقيّين الى الانتقال من النظرة إلى أنفسهم بأنّهم حرّاس مصالح وحقوق بعض الأطراف، وأن يرتقوا في النظر لأنفسهم بأنّهم، وبالدرجة الأولى، مهندسين للمجتمع الّذي يعيشون فيه، وعليهم تقع مسؤوليّة القيام بهذه المهمّة لكي ينجوا من حكم التاريخ ولعنة الأجيال القادمة.
وبالعودة إلى علاج تداعيات الأخطاء التي ارتكبت في إقامة المحكمة الخاصة بلبنان وحماية المجتمع من مزيد من التصدّع، فالمسؤوليّة الكبرى في درئ المخاطر التي تتهدّد المجتمع اللبناني يتحمّلها، بالدرجة الأولى، المجتمع الحقوقي بأكمله. والمواقف المعلنة في الدفاع عن السيادة والمصلحة الوطنيّة من قبل حقوقيّين مشهود لهم بالعلم والكفاءة، خصوصاً نقابات المحامين وكليّات الحقوق، سوف يكون لها التأثير الأكبر في توسيع دائرة الإدراك للمصلحة الوطنيّة داخل المجتمع اللبناني، وربّما على قضاة الحكم إذا كان لديهم الجرأة على الخروج عن مشيئة القوى المنشئة للمحكمة الخاصة بلبنان. والمطلوب هنا ليس اتخاذ مواقف أو الإدلاء ببيانات مراعاةً لمصالح أطراف معيّنة، وإنّما عملاً من أجل تقديم المصلحة الوطنيّة على كل مصلحة. فليكن هناك نقاش علني وبالعمق حول المواقف الواجب اتخاذها، فهذا أمر يدلّ على حيويّة ونشاط هذه النخب وهو دون شك ذو فائدة جمّة داخل المجتمع اللبناني. فإذا كان هناك من يرى مصلحة لبنانيّة في كلّ ما قامت به المحكمة الخاصة أو ما يمكن أن يصدر عنها من أحكام، فليدل برأيه، وليكن الدافع الأساس في أي موقف يمكن للمجتمع الحقوقي اتخاذه هو معرفة الحقيقة وبلوغ العدالة والعمل على توحيد المجتمع حول قيم يمكن لكلّ مواطن أن يعتزّ بها.