د.جواد الهنداوي – الحوارنيوز خاص
أكتبُ عن الموضوع ،تعقيباً على ما كتبه رئيس مجلس القضاء الاعلى ، السيد فائق زيدان المحترم ، بتاريخ ٢٠٢٢/٢/١٤ ، وتحت عنوان ” تعديل الدستور ضرورة يفرضها الواقع السياسي “، واشاركهُ الرأي في ما أوردهُ من ملاحظات وإستنتاجات ، وأحاول أضافة استنتاجات أُخرى ، وبيان ما فاتنا من فرصة ومناسبة عند صياغة الدستور لتلافي ما تضمنّهُ من نصوص وقواعد ، فرضها الواقع السياسي ، ولكنها تحول دون بنّاء الدولة .
ولِدَ الدستور بعد مخاض يسير جداً بين رؤيتيّن: رؤية مُستترة ، صامته ، لا حولْ لها و لا قوة ، تُمتمتُ همساً بمصلحة الدولة ، ورؤية ناطقة وتصدحُ جهراً وعلناً بمصلحة المكوّنات (شيعة ،سنة ،عرب ،كرد ، تركمان آشوريون ، وغيرهم). و لا أشّكُ في نوايا وجهود اصحاب المكوّنات ، في حرصهم على مصلحة الدولة ، عند صياغة الدستور ، ولكنهم ظنوا بأنَّ مصلحة الدولة تمّرُ عبر مصلحة المكوّنات وليس العكس !
حين التقى اصحاب المكّونات او حين التقتْ المكونات حول مائدة اعداد و صياغة الدستور أزدحمت الاراء و المقترحات المكوناتيّة ، وتنافست من اجل الفوز في التثبيت على لوحة الدستور ؛ المكوّن الشيعي والمضطهد في الماضي كان أملهُ في المستقبل ، والمكوّن السني والذي تردّدَ في المشاركة و وافق جزئياً وعلى مضض كان خائفاً من المستقبل ، والمكّون الكردي صاحبهُ الخوف و الشك من الماضي وعلى المستقبل !
كُتِبَ الدستور وفق ذلك الواقع السياسي المأزوم ، فحملَ الدستور آمال الشيعة و مخاوف السّنة ومخاوف وشكوك الكُرد ، فجاء هجيناً يعوزه و ينقصه الكثير كي يكون منتجاً لنظام حكم قادر على بناء دولة . لا بلْ حملَ الدستور قدراً من الانسدادات والمُعّطِلات استطاعت ، ليس فقط تعطيل بناء الدولة ،وانما ساعدت في اشاعة الفساد والفوضى ، وقادرة ايضاً ( واقصد الانسدادات والمُعطِلات ) على ايصال العراق الى التقسيم !
خلال مُشاركتي في اللجنة الاستشارية لصياغة الدستور ( حينها سفيرا في الديوان ونُسّبتُ بحكم الاختصاص القانوني والدستوري للجنة الاستشارية لصياغة الدستور ) ابديتُ الرأي الواضح والصريح بضرورة تبني نظام سياسي شبه رئاسي او رئاسي ، وبينّت الاسباب ،
ولمْ امتنعْ عن القول والافصاح عما ورد في الدستور من احكام ونصوص مُعطّلة لبناء الدولة ، وكتبت ونشرت كُراساً بعنوان مراجعة تصحيحية لنصوص “الدستور الاتحادي العراقي ” ،الطبعة الاولى عام ٢٠٠٦ ، دار الرافدين ،بيروت .
كنتُ مُدركاً وعلى يقين بما سيجلبهُ مصطلح ” الكتلة النيابيّة الاكثرعدداً ” ،الذي وردَ في المادة ٧٦ من الدستور ، مِنْ اختلاف في الاجتهادات والتفسير ، وعدم دقة في المعنى والتعبير ، و اقتبسُ مما كتبتهُ حينها مايلي: ” كان رأينا ان يكون نص الفقرة اولاً من المادة المذكورة هو كالاتي : يكلف رئيس الجمهورية مرشح الحزب او الكتلة السياسية او القائمة الانتخابية التي فاز /فازت باكثر المقاعد البرلمانية عدداً في الانتخابات …) والسبب في ذلك هو ضرورة ووجوب وجود معيار زمني او حدث سياسي معين ،على ضوئه يتم تحديد وتعريف الكتلة النيابيّة الاكثر عدداُ . وهذا المعيار او الحدث الزمني هو إمّا الانتخابات ، واماّ منح الثقة او سحبها من الحكومة وامّا حل مجلس النواب . فالحزب او التكتل او القائمة الذي /التي تفوز بالانتخابات ، وتحافظ على تفوقها العددي عند دخولها البرلمان هي من تتولى تشكيل الحكومة ، والحزب او التكتل الذي ينجح في سحب الثقة من الحكومة هو من سيتولى تشكيل الحكومة، لانه سيكون صاحب الاغلبية حتماً .
وقرار المحكمة الاتحادية رقم ٧ لعام ٢٠٢٢، والذي تناول مفهوم ” الكتلة النيابيّة الاكثر عدداً “، جاء مطابقاً تماماً لنص المادة ٧٦ من الدستور مِن ناحيتيّن : اولاً ،لا يوجد الزام دستوري على رئيس الجمهورية بتكليف مَنْ سيشكل الحكومة في الجلسة الاولى لمجلس النواب ؛ والناحية الاخرى هو انَّ تشكيل الكتلة النيابيّة الاكثر عدداً ممكن ان يحصل خلال الجلسة الاولى او بعدها و تُقدمْ الى رئيس البرلمان ، وممكن ان تحصل حتى بعد انتخاب رئيس الجمهورية. وهذا ما يؤكد مرونة مفهوم الكتلة النيابيّة الاكثر عدداً وتغييره وفقاً لحركة التحالفات والتكتلات وفقاً للأحداث السياسية البرلمانية ( انتخابات ،سحب ثقة عن الحكومة ،منح ثقة لحكومة اخرى ،حل مجلس النواب ).
من جانب أخر ، ارى ان المادة ٧٥ من الدستور والتي تتناول حالة ” خلو منصب رئيس الجمهورية ” ، والتي تنص على ان يحّل رئيس مجلس النواب محل رئيس الجمهورية في حالة عدم وجود نائب له …) مخالفة لمبدأ فصل السلطات ! وهذا ما ذكرته حينها ونشرته في الكراس المذكور اعلاه عام ٢٠٠٦ ، واقترحت بأن يحل رئيس مجلس القضاء الاعلى او رئيس المحكمة الاتحادية محل رئيس الجمهورية عندما يكون المنصب شاغراً بدلاً من رئيس مجلس النواب وذلك للاسباب التالية:
السلطة القضائية هي سلطة مهنية وليس سلطة سياسية كالسلطة التشريعية اوالسلطة التنفيذية ،والسلطة القضائية هي سلطة مستقلة ولا تتنافس مع السلطتيّن التشريعية والتنفيذية ، و تمكين رئيس مجلس النواب ( سلطة تشريعية ) من منصب رئيس الجمهورية ( سلطة تنفيذية ) يعارض مبدأ فصل السلطات . كما انَّ المادة ٥ من الدستور تنصُّ على ان السيادة للقانون، وهذا يعني سيادة السلطة التي تمثّل وتطبّق القانون .
تعديل الدستور الاتحادي العراقي ضرورة مُلّحة اخلاقياً وسياسياً ، لأن الدستور هو القانون الاسمى للمجتمع وهو مصدر العدالة و اساس بناء الدولة .
وينبغي ان يكون معيار التعديل ليس الواقع السياسي وانما بناء الدولة وبناء المجتمع وبناء المواطن .
الواقع السياسي الذي حّلَ محل النظام السياسي السابق فرض مخاوفه وتناقضاته في صياغة الدستور ، علينا ان نجعل رؤيتنا لتعديل الدستور هي بناء الدولة والمجتمع و المواطن وليس الواقع السياسي المُعاش والذي يسعى الجميع الى تغييره بل استبداله .
*دكتوراه في القانون ومؤهل للاشراف على البحوث
في الجامعات الفرنسية.
زر الذهاب إلى الأعلى