في رحاب “اليوبنان ” ج 2
لا، اليونانيون ليسوا جميعهم آلهة وملائكة كما في وصف هوميروس، فلديهم أيضًا شَبَهْ فاضح مع شعوب المنطقة.
في لحظة الإنهيار، أذكر أن مجلة ذي إيكونوميست (The Economist) أوردت في مقالة مكتوبة بعناية عن هذا البلد أن الفساد والتهرّب الضريبي وما إليها من عدّة إفلاس الدول كان يسود اليونان. لا بل الأفضح، تقول المجلة الإقتصادية العريقة، أن مصرف غولدمان ساكس (Goldman Sachs) – وما أدراك بهذه المنظومة السياسية المالية التي لها الأثر في كلّ ظاهرة مالية (وأكثرها إفلاسية) في العالم منذ الإنهيار الكبير للبورصة الأميركية عام 1929 – كان هذا المصرف يعمل بصفة مستشار لدى الحكومة اليونانية. وتؤكد الإيكونوميست أن هذا المستشار كان يُعَلّم الحكومة اليونانية، لطفًا إقرأ جيّدًا، يُعَلّم الحكومة كيف تُزَوّر القيود والإجراءات والحسابات والإحصاءات والتقارير لتجنيبها العقوبات التي يفرضها الإتحاد الأوروبي على أعضائه (منها نسبة العجز والدين الى الناتج المحلي والعام، الخ..) إذا ما خالف نسب معينة من الشفافية والنمو. لا بل أكثر من ذلك، فإن، وبكل وقاحة، مع إفتضاح أمر التلاعب بالأرقام والوقائع، أنهى المصرف مهامه مع الحكومة اليونانية غير أن المدير الشريك المسؤول عن ملف اليونان حصل على مكافأته بالملايين نظرًا لإنهاء عمله هذا "بنجاح". بكلّ وقاحة. وأوضحت المجلة أن الفساد والتهرّب الضريبي كانا أكبر الآفات التي تسبّبت بإفلاس اليونان.
على صعيد لبنان أيضًا، فإن الفساد والتهرّب الضريبي هما واضحان الى جانب أسباب كثيرة وكبيرة غيرها. وقال الماكنزي (McKinsey) (من: قال المقريزي) أنّ طالما أنه ليس هناك من إجماع وطني حول الموضوع (ونسأل: هل من إجماع وطني حول أيّ موضوع؟) فلا يجوز لا معالجة العجز والدين العامين ولا تأمين الإستقرار الإقتصادي والمالي والإجتماعي وذلك حتى تطبيق المادة 95 من الدستور (اللبناني طبعًا وليس اليوناني). ويجدر التذكير أن هناك دعاوى فساد مقامة من قبل دول في العالم ضد كلّ من الشركتين، ماكنزي وغولدمان ساكس، ولكن ما من يهتم طالما أنها شركات خارج مجال المحاسبة لكونها أدوات لدولة مارقة. وهل يؤكّد ذلك مقولة أنّ كلما كبرت الكذبة، كلما صدّقها الناس، وكلما كثر الفاسدون في عمل ما كلما صعبت عملية مكافحة الفساد.
ولأن الأرقام تتكلم ولا تتحرّك إيجابًا إلّا بواسطة إرادة وإدارة سياسية سليمة، فمن المفيد الإشارة الى أنّ الناتج المحلي اليوناني (300 مليار) يساوي 60% من الدين الخارجي (500 مليار) . أما لبنان فالمقارنة تذهب الى 30 الى 100 (تقريبًا) من المليارات. والى جانب ذلك وممّا فات مستشارو لبنان فإن الإقتصاد اليوناني يعتمد على 12,6% من القطاع الزراعي مقابل 3% للبنان و 15% للصناعة مقابل 7% للبنان، وتُصدّر اليونان بمقدار 31 مليار وتستورد بقيمة 52 ، ولا لزوم للمقارنة مع لبنان في الفارق فيما بين الرقمين. علمًا أنّ الرقم في لبنان يبقى وجهة نظر حسب غاية الأطراف من استعماله.
أما في المعالجات، فالأحزاب والجهات التي كانت تتحكم بمصير اليونان وتسببت بوصوله الى الإنهيار كانت تعتمد النهج الإقتصادي الليبرالي المتوحّش. والآن وبعد استلام حكومة ذي حسّ إجتماعي واضح بدأ إقتصاد البلاد يستعيد عافيته.
أما في لبنان، فالذين استفادوا من الحرب هم الذين نصبناهم (من نصْب ) علينا ليستفيدوا من السلم (غير محقّق حتى الآن) وأولينا أمرنا الى حكومة، تمثّل طبقة سياسية متحكمة من الليبراليين المتوحّشين، طالبين منهم أن يصلحوا ما خرّبوه، تمامًا كمن يكلّف دراكولا بأمانة مستودعات بنك الدم.
مع هذا قد يصلح عندنا الوصف الذي جاء في كتابات مؤرّخ " تاريخ الحضارة في أوروبا " الفرنسي فرنسوا غيزو ( Guizot (François (يمكن مراجعة النصّ الأصلي بالفرنسية في(3)) والذي قال: "… وعندها وصل نظام جديد الى الحكم، وفيما يأتي شخصيته: لا يكترث للمبادىء، ولا للقوانين، ولا للحقوق، لا يقلق للعدالة أو الحقيقة. حكمٌ يبحث فقط عن وسائل النجاح في كلّ مناسبة. يومٌ يجرّب الفساد، وفي يوم آخر يثمّن الروح الوطنية، وبالمختصر حكومة لا أخلاقية الى أقصى حد، غريبة عن كلّ عقيدة، عن أي حياة عامة".
هل ما زلت معي ؟ لا شكّ أنك قارىءٌ عنيد ولم تقتنع بعد بعقم مقارنة اليونان بلبنان … فإذن معًا إلى الجزء الثال(غدا الجزء الثالث والأخير).
حيّان سليم حيدر
باحث … عن فسحة من الأمل،
مواطن لبناني … قيد التأسيس.
بيروت، في 17 نيسان 2019م.
(3) Alors arriva un nouveau système de gouvernement, voici quel en fut le caractère : aucune inquiétude des principes, ni des lois, ni des droits, aucun souci de la justice et de la vérité. On cherchait seulement quels étaient les moyens de réussir en toute occasion. On tentait un jour la corruption, un autre jour on flattait l’esprit national, en un mot un gouvernement profondément immoral étranger à toute doctrine, à toute vie publique.
Malgré son immoralité, malgré son dédain des principes et des intérêts véritables du Pays, ce gouvernement fut d’abord accepté. Mais il arriva un moment où la corruption, la servilité, le mépris des droits et de l’honneur public furent poussés à un tel point que l’on cessa de se résigner.
Histoire de la Civilisation en Europe
François Guizot ( 1787 – 1874 )