في رحاب البندقية : كتلة سياحية لا تشبه الأمس إلا بخرافة جمالها(هدى سويد)
زرت فينيسا (البندقية) ثلاث مرات :الأولى خلال الكرنفال عام 1998 والثانية عام 2005 والثالثة عام 2010 . وددت هذه المرة معرفة ما أختزنه من الأمس وما بوسع اليوم ورفقته المستحدثة إضافته.
لم تعد الأيام في فينيسيا على ما كانت عليه ، كما لم تعد رفقة الأمس ، قد تمر خيالات وذكريات بقيت كزوم لغبار ضبابي. روايات قرأناها في شبابنا ، كالموت في البندقية – توماس مان، طائر الليل – سوزان هيل، مسرحية تاجر البندقية – شكسبير، وقد يسترجع الذهن حكاية حب لنموذجي المدينة أي “داما” -السيدة- وكازانوفا وغيرها من الأساطير ، أو لرؤية الفن والهندسة المعمارية ، لمحة عن أعمال أبرز رساميها تيزيانو وبلليني مثلا ، أو استشعار ما كتبه كازانوفا !
البندقية اليوم 2024 المكتظة يوما بعد يوم ، انما كتلة سياحية غريبة وممتعة في آن ، قادمة بحماس من مختلف القارات ، بل بعجلة ومزاحمة كمن يخشى فوات الأوان . مدينة لا تشبه الماضي بسياحها أو تجارها . دكاكينها السياحية التي تتدلى منها القبعات والملابس التجارية،” يمكن رؤيتها في أي مدينة سياحية” ، يعرضها بائعون قدموا من الهند والصين و..
البندقية لا تشبه الأمس إلا بأصالة تاريخها وأصرحتها . ساحة سان ماركو الشهيرة ، كنيستها ، ساعتها وجرسيها يسبق طنين أحدهما بدقائق معدودة الآخر ، زواريبها ، جندولها وجسورها العائمة فوق الماء كخرافة لا شبيه لها.
اليوم في فينيسيا رفقة إنسانية تلتقيها دون موعد تبحث الاسترخاء ، المشي دون رغبة وحشرية الأمس ، فما اختزنته منها كاف وكفيل براحتك وجولتك التي يسودها الآن النظر والصمت أكثر من السؤال والاستفهام .
اليوم في فينيسيا حديث لا يمل ولا يملل ، أفق ناضج منعش يخفف من رطوبة هذه المدينة ، مدينة تعشق زيارتها لاسترجاع او البحث عما تفتقد ، وتعود إليها دوما بسبب خرافتها ، ان تغيب عن ناظريك وسائل النقل التقليدية ما بينها وبين جزرها ، لتعم البواخر بديلة والجندول في ممراتها المائية كآخر مشهد يشهد على الأمس والحاضر .
أود القول إن فرادتها ووهجها ، تاريخها وصيت جمالها الحقيقي والسياحي، قد يحجب مبالاة واهتمام نسبة من الزوار بما يحيطها من جزر .
حوالي 118 جزيرة تنتشر في بحيرة إقليم “فينيتو” التي تنتمي إليها وإلى مياهها فينيسيا ، تلتقي جميعها في حوالي 400 نقطة تواصل ، منها تلك الواقعة في المدينة والمعروفة بالقناة الكبرى، منها وإليها يتم العبور بالباصات أو الحافلات المائية إن جاز التعبير، نحو جزر مدهشة، وأن كانت صغيرة بحجمها وعدد سكانها . وإذا وضعنا جانبا جزيرة “مازوربيتو” التي تخلو إلا من أربعة أشخاص نظرا للتقلبات الطبيعية التي تعرضت لها ، يتبقى أربع جزر تدفعك الحشرية لزيارتها هي مورانو ، بورانو ، سان لازارو وتورشيلو ، وإن كانت الأخيرة عبارة عن 0.2108 أو 0.4417 كم 2 كمساحة، وتضم 12 شخصا من السكان. ولعل أبرز مافيها أرضها العذراء وكنيستها سانتا ماريا التي تعود للعام الألف، وتضم أفرسك وجداريات جميلة ضخمة مُنعنا من تصويرها للأسف ..لا فنادق ولا مطاعم ، مقهى بسيط للاستراحة وامرأة توزع – في ظل المناخ الحار لشهر حزيران- توزع قناني المياه بسعر متهاود لا يتجاوز اليورو ولا يشبه أسعار فينيسيا.
/ نفخ الزجاج فن ولقمة عيش مورانو
أما مورانو* حوالي خمسة آلاف نسمة وبمساحة 1,17كم مربع فتكاد أن تكون الأكثر تداولا نظرا لبراعة معلميها بفن نفخ الزجاج ،صناعة وانتاج الأشكال الفنية الزجاجية اليدوية على مر العصور حيث يُقال كما أشار المشرف على معمل لازاريني التاريخي أنها حرفة تعود للعام1219، وكانت السلطات تمنع المعلمين الفنيين من مغادرة مكان عملهم إلا بإذن رسمي كي تحافظ مورانو على سر واحتكار المهنة.
رائع في مورانو رؤية معلم مسن تحقق يداه الرشيقتين شفافية طائر ، زهرية، حصان ، وردة ، كوب أسرع من نحات يستغرق عمله سنوات لتحقيق ما تم تحقيقه في لحظة كما رددت .
في مورانو متحف زجاج وكنيسة القديسين ماريا ودونات . بيوت مصطفة ملونة ومحلات للذكرى ، استراحة مقهى يتدلى من سقفها الزجاج بأشكاله وألوانه المختلفة ، فيها جسران وقنوات تعبر من وإلى فينيسيا والجزر الأخرى ، لولا الحرفة والإبداع لانطفأت الجزيرة ووهجها .
أطلق العرب اسم البندقية كما يُقال على فينيسيا من دون أن يعد هذا من الأسماء ذات الأصل العربي، وإنما تم اشتقاقها من كلمة دوقية اي الدولة التي يحكمها الدوق و”بون” أي الفاضلة ، ويقال ان العرب قاموا باختزال الكلمتين بواحدة أي البندقية كما يستسيغون لغويا.
/ بورانو جزيرة الدانتيل والبيوت الملونة
تأتي بورانو بعد مورانو وما بين مورانو وبورانو* حرف واحد تتغير معهما كل المعلومات ، أقصد ما بين الميم والباء كل معالم خاصية وحقيقة الجزيرتين . ولم يشف الدليل السياحي غليل سؤالي ، المهم أن “بورانو* ” التي لا تتعدى مساحتها 0.2108 كم2 ، أكثر اكتظاظا من الجزر السابقة وتعتبر سكنيّة حيث يبلغ تعدادها ما بين 2195 و2270 نسمة تقريبا ، ولا أدري إن كان هذا الرقم ثابتا طوال العام ؟
هي آخر جزيرة تابعة لبلدية فينيسيا منذ العام 1923 كما مورانو. ما أود التحدث عنه ، أن القادم إليها لا تهمه ربما مساحتها إذ قد يجتاز مساحتها الصغيرة بوقت بسيط ، فيها ساحة وحيدة هي غالوبي بينما أبرز أحيائها حي سان ماركو .
كما لا يهمه ربما الإشارة إلى مواقعها السياحية، فليس هناك الكثير للتوقف عندها إلا شهرتها الأساسيّة بأعمال الدانتيل اليدوية الرائعة التي يعود إليها متحف الدانتيل ، حيث كانت في داخله مدرسة لتعليم الحرفة هذه في زمن مضى ..
إلا أن ما يدهشه منذ أن تحط قدماه أرضها بعد رحلة عبور بحرية وهبوطه من المركب ، بيوتها البسيطة النموذجية المصطفة والملاصقة بيتا تلو الآخر ، تمّ تلوينها بألوان صارخة ، فرحة ، ما بين الأحمر، الأخضر، الأزرق، الأصفر، البرتقالي ،ألزهري إلخ.. كخرطشة ألوان الأطفال ..
لماذا كل هذه الخرطشة الفنية التي تنعش القلب في عزلته وفي حر الجزيرة ؟
يُقال كما تذكر الأسطورة أن الصيادين عند عودتهم من رحلتهم متأخرين ، كانوا يلقون صعوبة بالتعرف إلى بيوتهم ، وذات مساء إثر عودة أحدهم مساء وبسبب الضباب لم يتمكن من التوجه إلى بيته مُقررا في اليوم التالي تلوينه وهكذا كان ، حيث بدأ الآخرون رغبة وتقليدا له بتلوين منازلهم ..
أمام مداخلها حبال نشر الغسيل وكراسي لحمام شمس ..
جزيرة تدعوك للهدأة من صخب فينيسيا ، وإن كانت بورانو مقصودة سياحيا إنما بسبب بيوتها الملونة التي تجلب السياح في ظل انعدام الفنادق ( أشبه بالبيوت المسماة ترولي* في مدينة ألبيروبيلو* التي تستقطب الزوار في إقليم بوليا الجنوبي ).
جزيرة أنيقة وذوّاقة بمحلاتها التي تتحول إلى دانتيل أبيض ، تتربع داخلها نساء يسردن فن دانتيلهم على الأقمشة ، دانتيل لتزيين الجدار، الطاولات، أو يتحول الدانتيل عملا فنيا للوحة ..
جزيرة تدعو للهدأة لمن يسعى للركون ، مطاعمها أنيقة وذواّقة كما شعبية ، في أحدها تشاطرنا جينا وميركا وأنا، نتناول الطبق التقليدي الشهير “غو” للأرز مع حبر أسماك صغيرة للجزيرة ، أو فيليه سردين مقلي مع بصل وخل ، ولا يمكن التغاضي عن بسكوتها”بوسسولاي” الدسم الجاف وإن كان !!
تمت الرحلة في حزيران – يونيو 2024,
الآن وقد انتهت الرحلة :
في البال دوما فينيسيا :
Murano,Burano , Trulli ,Alberobello