الدكتور نسيم الخوري
هناك ظاهرة تضخيم إعلاميّة مقلقة جدّاً تجمع معظم اللبنانيين وحتّى أشقّائهم في دول الخليج والدول العربيّة والأجنبية التي تُظهر عطفاً وصبراً ومبادرات وضغوطات لمساعدتهم للخروج من الأنفاق المظلمة التي ينشطون فيها. ما يضاعف القلق أنّ العديد من الإعلاميين لا ينتقون من أخبار لبنان والعرب والعالم سوى المصائب والخرائب والإشتعالات. أكاد أجزم، قالت دكتورة في علم النفس العيادي، إنّ “هذه ظاهرة مرضيّة ساديّة مستشرسة وخطيرة تستدعى العلاجات الجماعية ولو أنّها مستعصية لأنّ الأنا المتورّمة تتحكّم بهم بعدما تضخّمت أيضاً لدى الساسيين الغارقين في سقوطهم الكبير”.
لماذا؟
“لأنّ حجم الإعلام والإعلاميين وسلطاتهم المتشظّية على قبائل الطوائف والأحزاب وبيوت السياسيين تجاوزت سقوفها، وكذلك قدرات اللبنانيين على الإحتمال بعدما أكلهم العوز والإحباط ، ولجأوا إلى الحبوب المهدّئة التي فُقدت بدورها من الصيدليات لنراهم مشاهد حيّة يومية في العنف والنشل والسرقات الليلية والخطف والإعتداءات التي تولّد نشوةً لدى بعض الإعلاميات تحديداً لدى نقلها بالإضافة إلى حوادث القتل والإلغاء والإغتصاب”. ظاهرة غريبة فعلاً لأنّ الأنثى تُقبل على الحياة وتحملها وتُعطيها أكثر من إقبالها على العنف والموت خلافاً للذكور. ليس أقوى من صور الإعلاميات في لبنان، وهذا موضوع دراسات تحليلية.
لا أمكنة للعلاج في الأسئلة عن وزارة الإعلام أو المجلس الوطني للإعلام المرئي المسموع ولا عن نقابتي الصحافة والمحرّرين، ولا حتّى عن السلطات القضائية التي غطست بدعاوى الشتم والتحقير ونتف الريش بين إعلاميّات وإعلاميي الأحزاب والشاشات المتنافرة والمتخاصمة، حيث لكلّ شاشة صاحبها.
أقترح المبادرة الملحّة إلى تجديد ما عرفناه أعني “ميثاق شرف إعلامي”، يوقّع عليه الجميع قبل تأليف أية حكومة أو مجلس أو برلمان. صحيح أنّ الرقابة صارت مفروضة ومرفوضة في عصري التواصل الإجتماعي والذكاء الإصطناعي، وصحيح أنّ مضامين النصوص في الرقابة هو واحد منذ 77 عاماً لن يتغير في نصّه شيء سوى أن كان اسمه “عهد شرف”، وترسخ باسم “ميثاق الشرف الإعلامي” ولا صفة قانونية له، والصحيح والأخطر ثالثاً أنّ ما بين العهد والميثاق نجد تاريخ لبنان ووثائقه وأدبياته السياسية وحتى دستوره وكلّها مصدّرة بجملتين:
وقف الحملات الإعلامية ووقف إطلاق النار.
لن نعثر على وثيقة من وثائق الوفاق الوطني الكثيرة إلاّ ونقرأ في بندها الأولى : وقف الحملات الإعلامية أو وقف إطلاق النار!
الكلمة سبّاقة الى الدم والقلم يسبق السيف والبندقية أصارت قبل اللسان. وأُضيف إلى الصحف والشاشات مواقع التواصل وقد صارت مواقد اشتعال النيران انصار السياسيين والطوائف.
لن أذكّر بأنّه” في البدء كانت الكلمة” التي ” تُحنّن وقد تُجنّن”، فالكلمة اللبنانيّة ملتهبة وهي ليست في فراغ أومن فراغ وتذكّرنا مجدّداً باللجان الأمنية والإعلامية ومواثيق الشرف الإعلامية في لبنان، التي غالباً ما تأتي بعدما تروح الأصابع تستسهل الزناد فيصير الوطن في غاب.
ليس الميثاق المطلوب والملحّ فُسحة لتنظيف البنادق أومتابعة التدريبات العسكرية في الجبال اللبنانية لا سمح الله، بل للإشارة قبل الخراب الذي يُحاك. إنّه الواجب الوطني المقدّس ينزع فيه الكبار والصغار صواعق الخطب والتصريحات والبيانات والمقالات والمواد الإعلامية السريعة المُلتهبة ولأنّنا نرى أيدي اللبنانيين خوفاً على قلوبهم.
هذا الكلام خطير لأنّنا في مرمى الرصاص والدم. فقد الإعلام رسوليّته بعدما صار الخبر وجهات نظر خلافية كبرى بين الإعلاميين المتهافتين وقد تسرّهم سلطاتهم ولا يسرّ المواطنين أبداً إذ يتطلّعون إلى القصور السياسيّة المقفلة على الحوار سواءّ أكانت في رؤوس القمم أو في أحياء بيروت المقفلة لحسابهم.
يُتابع اللبنانيون البرامج والأخبار، وتكاد لا تنتهي الزوايا التي ينظرون منها الى قوّة الإعلام وخطورته وكأنّه جبل مخيف لا يبلغ قممه سوى الزواحف والنسور:
يراه الأوّل مكاناً للمغامرة وتحقيق الذات، ويراه الثاني مرتفعاً للتزلج ، بينما ينظر اليه السياسيون مقلعاً للكسارات وللصخور لبناء قصورهم الجميلة، وينظر اليه الفلاّحون مخزناً للحرائق والفحم والحطب، وقد يحتمي به في الوقت نفسه قطّاع الطرق واللصوص والفارون من وجه العدالة. هذا الإختلاف في النظرة أمر طبيعي، لكن أن يكون لساننا هذا كلّه معاً، باسم الحرية والمسؤولية والديمقراطية، وفي إظهار لسلطات الإعلام ، فأمر يثبت بأن لبنان، خلافاً لمعظم الدول ما زال ساحة لا يعرف الناظر أو الداخل اليها من أين تبدأ والى أين تأخذنا وأين تنتهي وما هي حدودها ووظائفها أومخاطرها ومستقبلها.
زر الذهاب إلى الأعلى