في ذكرى 13 نيسان: حكاية عمّتي وملائكتها الخمسة(حسن علوش)
حسن علوش – الحوارنيوز
حكاية عمتي فاطمة تشبه الى حد كبير حكايات عشرات الألوف من العائلات اللبنانية الفقيرة التي قطنت ضواحي بيروت الشرقية بداية سبعينات القرن الماضي، وفي العام 1976 عندما سقطت النبعة وبرج حمود وتل الزعتر راحوا ضحية الحقد الطائفي.. نُكّل بهم، أعدموا وذبحوا ودفنوا أحياء…
رفضت عمتي الحنونة أن تخرج من منزلها المتواضع في محلة برج حمود ،وهي مقتنعة بأن بقاءها في المنزل وأطفالها الصغار، أكبرهم كان عمره آنذاك ثمانية أعوام، أفضل من التشرد والنزوح وضمانة لبقاء منزلها ومحتوياته خارج مسلسل النهب.
قالت لكل من تمنى عليها: لن اغادر، فأنا وأطفالي مسالمون، والجيران هنا يعلمون بحالنا.
سقطت النبعة وجاء المسلحون ليحرروا منازلها من الأعداء. اختفت عمتي وأطفالها، وهم منذ ذلك التاريخ نحو 47 عاما مفقودون رسمياً.
بقي والدي على اسابيع طويلة بل أشهر يتردد يوميا الى محلة البربير (المعبر بين غرب بيروت وشرقها) يسأل عن شقيقته الكبيرة، يرسل لأصدقائه الكثر رجاء بعد رجاء أن يستقصوا عن فاطمة. عبثا كان يحاول… حتى اتصل به أحد الجيران من الطائفة الأرمنية ليقول له: “أبو قاسم ما عاد تعذّب قلبك.. جاء مسلحون من خارج المنطقة واقتادوا جماعتكم وجرت تصفيتهم، ولا اعرف أكثر من ذلك.”
أروي حكايتي هذه لسببين:
الأول، لأؤكد أن الحرب الأهلية بشعة ومقيتة ،وأننا وعائلة عمتي سامحنا وما نسينا خسارة الأفئدة والأحباء. نسينا وسامحنا على أمل أن يكون المجرم قد عاد إلى ربه، وأدرك خطيئته وخرج من خنادق الحقد واقتنع برحابة الوطن والمواطنة…
والثاني، لأؤكد أيضاً أنه ما مر يوم منذ 47 عاما إلا وكانت عمتي حاضرة في بالي ووجداني وسلوكي، وأطفالها الخمسة: أحمد، محمود، آمنة، هلا، وحسام، كبروا معنا في ذواتنا أرواحا تعايشت وتتعايش مع ارواحنا الى اليوم الأخير. وأبي الذي رحل في العام 1982 بعد نحو ست سنوات من القهر والحزن على شقيقته الوحيدة من والديه، هو أيضاً يسكنني برباطة جأشه وحرصه على ألا نغرق في دوامة الحقد المضاد، وأن نبقى أنقياء نحب لبنان وأهله، كما أحببنا عمتنا الجميلة فاطمة وملائكتها الصغار.
بعد 47 عاما، يعود المجرم ليطل برأسه وكأن لا حرب ولا احتراب استمر نحو 15 عاماً، قُتل فيها 150 ألف شخص وسقط حوالي 300 ألف جريح واختفى 17ألف مفقود…
عاد الى خطابه المأزوم الذي فجر الاقتتال وفتح الفضاء اللبناني لتدخلات خارجية حولتنا الى دمى صغيرة. عاد الى خندقه والى حديثه عن “الامتيازات” و”النوعية” و”الميثاقية” وكلها عناويين شأنها شأن الفتن التي صدعت وتصدع المجتمع وتضعف الكيان اللبناني وتحوله الى كيانات متناحرة.
رحم الله ضحايا الإقتتال الأهلي ،وأسف كبير لهذه الدماء التي أريقت في سبيل وطن ما يزال في طور الولادة منذ العام 1943.