في ذكرى استشهاد عبد الخالق محجوب: الفطن الوسيم يخيم على السودان مجددا
بقلم محمود الشيخ -الخرطوم
(1)
لدىَّ إعجاب خاص بشخصية الشهيد عبدالخالق محجوب*، السكرتير السياسىِّ الأسبق للحزب الشيوعى السودانى، ليس لعبقريته ونبوغه، وإن شهد له زملاؤه ؛ بقدرته أن يصير بروفيسورا فى أى مجال يختاره، غض النظر عن ذلك المجال، ولا لأن الدرجة التى تحصل عليها عند خوضه الامتحانات المؤهلة للمرحلة الجامعية لم ينلها قبله أو بعده أى شخص حتى هذهِ اللحظة، حتى تضاءلت أمام ملكات ذهنه كلية الخرطوم الجامعية ( جامعة الخرطوم لاحقا)ً ثمّ جامعة القاهرة الأم "جامعة فؤاد " ، ولا لكون الأستاذ المربى المرحوم / محمد أحمد سليمان، والد الأستاذين / بدر الدين سليمان والمرحوم / غازى سليمان، ظل يحتفظ بكراسة تخصه، مقراً فى وقت لاحق لابنه غازى، أن هذه الكراسة تخص أنبه طالب قام بتدريسه طيلة مسيرته التعليمية، وليس لكونه قد تسنم قيادة الحزب الشيوعى السودانى والحركة اليسارية وهو فى بواكير العشرينيات من عمره ..إنما لموقف مبدئى قد اتخذه منذ بواكير الصبا ونعومة الأظافر، أن يركل كل ماهو موعود به ويقذف به خلف ظهره ، من جاه ومكانة علمية وأكاديمية وبشريات ثراء مالى، تجعله حديث الدنيا، وترضى فيه كل الرغبات البشرية، دون ملامة أو نقد ، وذلك ابتغاء طريق وعر وشائك ، اختاره لمسيره، بقناعة تامة وضمير راض، نحو هدف أسمى من الرغائب الخاصة.
(2 )
عندما قرر جعفر نميرى انهاء حياته القصيرة عمراً والعظيمة عملاً وأثراً ، والتى لم تتجاوز فى مجملها العام الرابع بعد الأربعين، كان قد سأله بصلف واستهزاء (قبل تلك المحاكمة التى جسدت المعنى الحقيقى والحرفى للكوميديا السوداء) عن ما قدمه للشعب السودانى. خرجت الإجابة من فم محجوب مختصرة – منذ صرخة الميلاد حتى صرير المقصلة- كل الأيام والشهور والسنوات ولحظات الفرح والألم وحلاوة النصر ومرارة الهزيمة ، موضحاً سبب خلقه وبعثه : " الوعى. .الوعى بقدر ما استطعت " .
(3 )
ما أن أفرج الغرب قبل سنوات عن لقطات تلفازية للمحاكمة الهزلية لعبدالخالق ( كانت محاكمة عسكرية لمواطن لا ينتمى لقوة نظامية ! ) والتى جرت وقائعها فى أواخر يوليو 1971 ، ورأيته يدخل للقاعة، ليس كمتهم، بل كرئيس محكمة، وسمعته وشاهدته يخاطب تلك المحكمة البائسة بثبات ولسان لم يتلجلج، أيضاً ليس كمتهم، بل كرئيس هيئة دفاع عن المتهم، وبعينين لهما برق وجمال، وشفتين تنفرجان مابين البرهة والأخرى، بابتسامة ساخرة، عاكسة ما بالنفس من ثقة، حتى توهط يقينى فجلس القرفصاء، ثمّ مدد أرجله كما فعل أبو حنيفة، مؤكداً على صدق حدسى ودوافعى للإعجاب ..فليس بالضرورة البتة أن نكون قد التقينا فى حياتنا بمن جبلنا على تقديرهم واحترامهم، يكفينا فقط ماتواتر عنهم من الثقاة، أولئك الذين لاتعترى شهادتهم قوادح. ..فما بالك إن أكرمك الزمان بمشاهدة من توقر وتبجل ( صوت وصورة وبالألوان) دون أن تلتقيه من قبل، وفى يوم عرسه، الذى ظنه البعض يوم تعسه !. . ياسلااام!
(4 )
عندما توجه عبدالخالق (واثق الخطوة يمشى ملكا) نحو المشنقة، صدح فى ممرات سجن كوبر( تلك التى تفصل بين منتظرى الموت ومترقبى عودة الحرية) بكفاح الشعب السودانى، وعندما وقف داخل غرفة الإعدام؛ غابت عن مشاهد السينما العالمية والحياة الإنسانية أهم لقطتين، وهى ما شهد بها بعض الحضور يومئذٍ. .اللقطة الأولى : حين سلم محجوب ساعته يده لأحد الجنود بصحبة عبارة ساخرة، أنه أولى بها من أولئك اللصوص. ..وقبل كلمة النهاية؛ سأل بطلنا شناقه – معلقاً على شفتيه ذات الإبتسامة التى وقع ومهر بها مرافعة الدفاع – عن متانة وجودة حبله، وإن كان بمقدوره تحمل وطأة جسده ، لم يدرك الشناق ولا المحكمة التى قررت ازهاق روحه ولا حتى جعفر نميرى؛ أن محجوب ذكر البدن وأراد العقل! كان هذا هو الماستر سين Master Seen.
غاب الجميع. ..وبقى الفطن الوسيم، فعلاً وإسماً وذكرى.
* تصادف ذكرى استشهاد القائد السوداني في ٢٧ تموز. ( ١٩٢٧ -١٩٧١)