سياسةمحليات لبنانية

في جمهورية الصرافين:تساؤلات بين مقيم ومهاجر

 

هدى سويد ـ إيطاليا
يروعني شظى ما أقرأه وما يصلني من أخبار ،سواء عبر المواقع ، أوعلى صفحات الجرائد المتبقية وألسنة الناس والأصحاب ، كذلك ما يُنشرعلى صفحات الفايسبوك لما يحصل من تدهور الحياة المعيشية واللعب بالعملة اللبنانية وما يدور في الشارع اللبناني من كر وفر لا يمت بأي صلة لأي حلم بالمستقبل .
تروعني تحديدا محاولات  نبش القبور من جديد ، من قبل من يمتهنها من أشخاص في هذا المضمار، وجُهّل سمتهم الرئيسية الهرولة قبل الإنصات ،بل ومن قبل أشخاص يحاولون إقناعك بعلمنتهم وكان يُخيّل أنهم كذلك ، وإذ بهم يهبطون بكل "علمنتهم" تلك إلى مستوى الشارع  بعباراتهم الفاقعة ، " لمعاتهم الفكرية " وجحظ أفكارهم ، نحو شارع يغلو بزعرانه ، كما أحيائه وزواريبه .
يشلحون عباءة العلمانية  مُتعرين ، يتساوون سواء بفلتان لغتهم أو بتصرفاتهم وردّات فعلهم ،  يتساوون بأولئك الفالتين الذين لم تمر صوبهم أو تلفحهم أخلاقية أو تربية وطنية وديموقراطية ما ولا من يردعهم  .
يهبط متهورون من الشباب مفرّعين أجسادهم العارية وما يُزينها من "تاتو" أو وشم رافعين علمهم، صارخين باسم الشيعة ، لتقابلهم جموع من السُنة لا ترضى بالتحدّي تستنجد برمز لا تجده أو تبحث عنه كي تتسلح به من هجمة الشيعي ، وهكذا الأمر بالنسبة للدرزي وللمسيحي الخائفين من انقضاض الجميع عليهما يتكتكان عملا بتكتكة الجميع ، موزعين أقدامهم ما بين التحالفات .

إنها سياسة نبش قبور الماضي  لرموز انقرضت تسعى إلى عدم فقدان دورها ،وهي سياسة نبش القبور في ظل غياب الدولة والوطن ومفهوم المواطنية التي يسيطر عليها الخوف من الآخر وتخويف الآخر ،في ظل عدم تكافؤ القوى ،وهو خوف القوي من تجريد سلطته المذهبية التي فقدها لسنين .
المتابع عن بعد كما عن قرب ينتابه هلع عودة  لبنان إلى فوهة الإنفجار ، الذي سرعان ما يعمل  الواقفون خلفه على تلقفه وعلى لجم غضب وحنق المتسارعين الغاضبين لأنهم هم من يديرهم ويدفعهم ، كأنني بهم يربّتون على أكتافهم: " كفى شباب أحسنتم يعطيكم العافية على السيناريو ، هذا كاف اليوم ؟! "
لكن أحيانا لا يلتزم  الجميع بمدربهم وزعيمهم ، ما يدفع البعض منهم للشطح في التمرد والتمثيل مستمتعين باللعبة .
ما أن يُحدث الفتيل شرارة حتى تندلع نار مجنونة ،
ما أن تلمع شرارة حتى يخرج هؤلاء من مخابئهم ممن اعتقدنا أنهم زالوا بسحر ساحر ،
ويعود كل فريق إلى عصابته ، عصبيته المذهبية ، الطائفية بل الفاشية والعنصريّة .
بات للأفرقاء أحياء في هذا البلد الذي أرادته شريحة من مقيمين ومغتربين وديعا حنونا للجميع ،
باتت لهم أحياؤهم بل مغاورهم  وكهوفهم . توزيع ديموغرافي مذهبي ، عملت الحرب تحديدا على فرزه مع تأكيد السنين له فيما بعد بصورته الراهنة مع التهجير وما حلّ من أحزاب طائفية مذهبية  ، وبالتالي أصبح على سبيل المثال حيّ خندق الغميق أو منطقة الضاحية كهف ومغارة الشيعة ، أمّا طريق الجديدة والملعب البلدي كما قصقص هي مغارة للسُنّة …  وعين الرمانة أو الأشرفية كهف المسيحي ، تقسيم كنّا قد نسيناه وعقدنا العزم على مسح الأفكار السيئة من دماغنا، حالمين بتغيير منطقة سكننا لأن الوطن للجميع ، وبات الواحد منّا  يحلم بالسكن في حي غير مصبوغ بطائفة سواء المقيم منّا أو المُهاجر ، والأخيرحلمه أكثر تعقيدا لأنه عادة بصورة أو بأخرى يرغب بعدّ الأيام حالما بالعودة ! وفي كل مرة كانت عودته تتأخر، بل لنقل أقلّها أي زيارته المؤقتة التي باتت اليوم مع ما يستمر ويحصل ممنوعة أحيانا أو مؤجلة ،  فللقيام بزيارة للعائلة وما كان يُسمّى بالربوع اللبنانية ، لا بد من التفكير بألف حساب على مُختلف الصعد الأمنية ، السياسية والإقتصادية . حال المُقيم الذي كي يعيش في وطنه عليه التفكير بألفي حساب  ،ويكفي القول أن المُهاجر الذي  جمع كل تعب سني عمره في الخزنة أو "القجّة" اللبنانية مُرجح مصيره للمجهول ، لأن المصارف التي كان يدعمها لم تعد موجودة كإسم مُتعارف عليه ، أما الحلم ببيت أو سكن أصبح مغامرة  مرهونة بالفشل كمغامرة العيش في الخارج حيث تتعاظم العنصرية والعداء للأجنبي .
الهموم هذه تندثر أمام  تعاظم  وطغيان ما يلحق من آلام  أبرزها صعوبة لقمة العيش  . 
" كيف يبقى مسؤولو وزعماء هؤلاء الفالتين من كهوفهم ومغاورهم دون أدنى معاقبة ؟
كيف يستمرون ويحلمون البقاء للأبد ببرودة أعصاب ؟
نتساءل كيف لهم أن يستمروا ؟ كيف لهم التمترس فوق قلوبنا وصدورنا مُستخدمين اللعبة المُمّلة نفسها ؟
أقصد التخويف بالمذهبية والطائفية والتذكير بالأقوى !
علام بقوا ولماذا ؟ ما سر هذا البقاء ؟.
الجواب بسيط على ما يبدو :
بقوا لأننا اخترناهم ، أيّدناهم ، تركناهم يفعلون ما يريدون ، كي نفعل نحن ما نريد ،
نغض النظر عنهم ويغضّون عنا  دون رقابة أو مُراقب بقالب ديموقراطي مُزيّف أسموه  الجمهورية اللبنانية بكل مواصفاتها ومؤسساتها التي لا تمت لا للجمهورية ولا للديموقراطية بصلة !
استهتروا بالبلد كما استهترنا نحن .
هذه هي الحقيقة وليست المسألة آنية بل تعود لزمن نشأ معها لبنان .
قد يُقال عطفا "هكذا أرادوه الكبار أي الدول ،وإن كان أيضا لم يعد هناك كبير في العالم " ، وقد يكون الأمر صحيحا إلاّ أن علينا الإعتراف بأننا كنا شركاء بالانقضاض على بلدنا ، تفريغه وتذويبه ولم نحسب أي حساب إلاّ حساب مصالحنا ، ولا يتألم شعب في بلد إلاّ إذا كانت مهنة مسؤوليه الرئيسة ومصلحته الغالبة على ما عداها هي الصرافة ، وهكذا هو البلد.
لذا لا يمكن مسامحة أو غض الطرف عن مقولة يشاء عديدون تردادها من شدة ألألم والقهر والعتمة المسيطرة دون وميض أمل ، بإيعازهم تدهور الليرة بسبب سيطرة حزب أو حركة مسيطرة على الساحة لا يستفيد  منها إلا فئة وطائفة تابعة ،
التندب  والتحسرعلى رحيل الفلسطينيين منتشر في الذاكرة اللبنانية ، والعبارة الشهيرة في هذا الصدد :
" كان لبنان يغرق بالدولارات أيام الفلسطينيين !" أو كما العاميّة :
" البلد يا محلاه أيام الفلسطينيين كان جميع اللبنانيين يغرقون بالدولارات ؟
ـ أي كان الإغداق غير محسوب على  طائفة معينة ـ
بالطبع ليست الأموربتلك السهولة  ، هذا هو المنطق السائد وما زال سائدا لليوم ، نلجأ للغير ونرمي المسؤولية على عاتقهم ، ومن الصحيح أيضا أننا كنا نلعب فعلا دور المنتعشين إلى أن صدّقنا كذبتنا ،كما يقول بهذا المعنى سارتر ، لأن انتعاشنا كبلد ومواطنين بذاك المعنى زائف ومُزيّف، ولأن المرحلة الذهبية لبلد لا تُقاس هكذا دون تعب حكامه وأبنائه ،
اعتدنا على مجّانية الأمور وما يقدمه الغير لنا دون أن نقول ولو لمرة واحدة "لا". 
تركنا البلد للحركات الفلسطينية (وأرجو الانتباه ليس مقصودا نضالها لاسترجاع الأرض المنهوبة التي تضامنا ولم نزل معها ، ولا المقصود الشعب الفلسطيني الذي كان علينا مساعدته والوقوف إلى جانبه) ،
قبلنا بما قدّمه لنا الفلسطيني بحركاته السياسية والعسكرية دون تحديدها كما قبلنا بغيره دون حسابات وطنية ،
تم شراؤنا نعم ، أمّا السوق والاقتصاد اللبناني لم تغزه الدولارات بفضل تعبنا وعملنا، بل بسبب شراء الغير لنا بدولاراتهم ،سواء من الحركات الفلسطينية التي كانت تدعمها دول عربية ، ولذا انتهت الدولارات بعد مغادرتها ، وكذلك الأمر رضينا بما قدمته كل من ليبيا  العراق ، السعودية  ،كما تزلمنا لسورية  ، تزلمنا في مختلف الأشكال وكانت لكل طائفة دولتها ودولاراتها مُصدقين كذبنا بالإنتعاش والخوف من الآخر، وهكذا فعلنا مؤخرا مع ايران بدعم حزب الله ، ولم يحل منهجه من الالتحاق به من قبل  العديد ممن كنا نعتقدهم علمانيين ..
قبلنا مجانا عملا بمقولة الغاية التي تبرر الوسيلة ، أحببنا المال بجشع والحصول عليه دون تعب ،
أغرقوا البلد وأغرقونا بالدولارات حتى انتفخنا وأفلسنا ، وكنا في كل مرة نجد أنفسنا عند توقف الدعم مرميين على شاطئ دون أمل ، ولا نحن تعلمنا ولا القيادات الفلسطينية ولا الدول العربية!
هكذا وبهذه الأفكار يُترك البلد لمغتصبيه وسارقيه دون محاسبتهم ، وتكبر فرصة المتمترسين  بالكهوف والمغاور مع اتساع مساحة من لا يرغب في البقاء فيرحل أويعزم على الرحيل إن كانت هناك دول لاستقباله.
لا بد من حصانة قصوى كي لا نقع في المهاترات والنكايات القائمة، وهي حصانة غير متوفرة بعد ولا بد من العمل عليها لتطهيرنا من السموم والأمراض .
سمعت وقرأت خطاب رئيس الحكومة الذي يحاكي  بمضمونه عجزنا ، خطاب كل ما فيه صحيح  ،لكن ما فات الرئيس أن الشعب يطلب أكثر من المؤاساة. فلكي يقف شعب مؤازرا للحكم على الحكم أن يحقق ويُسهّل على الأقل رزقه ولقمة عيشه . يطلب كشفا للحقائق التي أعلن عنها إذ يكفي الشعب تهيؤات ، وبالتالي نقلهم إلى باخرة النجاة ، فما بين الحروف انهيار بلد وأحلام ، صحيح أن التركة ثقيلة لكن  في الدولة اللبنانية دولتان وجيشان لم أعد أدري أيهما الرسمي والمزيف ، وفي الوطن حدودا مُستباحة ولا ندري كم أصبح عدد السكان في لبنان ؟ هل يعلم لبنان الرسمي كم يبلغ عدد أفراد حزب ما اليوم أوعدد المقيمين غير الشرعيين ؟
في البلد حكومتان ، فخلف الحكومة الحالية المتعبة التي تزفر أنفاسها هناك  الحكومة السابقة  التي استباحت البلد بتجارها ، سماسرتها وصرافيها ، تعمل على العرقلة وهي التي تقرر "هذا يمكن وهذا ممنوع " .. هذا وعلى حدودنا إسرائيل وأميركا ، روسيا وإيران والصين بصفتها أو بمن يمثلها .
في هذه الأجواء هل تعب التحرك  الذي يجد فيه المسؤولون ضربا من الطيش ويتلذذون برؤية أشخاصه مسالمين  في الشوارع؟ .
تشابكت الأمور على المخلصين (وهم قلة) الذين يأملون بالتغيير الذي لن يتم ما بين ليلة وضحاها، بل بات مستعصيا في ظل ما يطرأ ، والغيوم لن تنقشع إلا بقدرة قادر، لكن إدراك المبتغى بلا ريب (كما حصل في ثورات عالمية لا مجال لذكرها الآن) يتطلب الأمر التفافا ، تكاتفا وتضامنا وذهنية مختلفة لإسقاط نظام، ولأن رموز الماضي الإجراميّة الممثلة للأحزاب والحركات ما زالت قابعة على كراسيها يخدمها الملتفون حولها لتحقيق مصالحهم ، الذين قد يندثرون يوما لكن كيف؟ بأن نقوم بما لم نقم به بعد ، وإلاّ فإن اندثارهم مُشترط بعودة نسخ بديلة عنهم مع تمسكنا بالعقلية ذاتها التي أنجبت هؤلاء الزعماء من أحزاب عائلية وطائفية ومن لف لفهم الذين يعملون على تأدية وتنفيذ ألعابهم في الأحياء والشوارع . 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى