في الذكرى الخمسين لغيابه: عبد الناصر جديد حاجة عربية
كتب محمد هاني شقير:
خمسون عامًا على غيابه، وغياب قادة من طينته، كانت كافية لترسم خارطة طريق لوطن عربي بدأ يسقط قطرا قطرا في مستنقع التطبيع. خمسون عامًا وتتأكد الحاجة يوميًا الى عبد الناصر جديد في وطننا العربي، يخرجه من أتون الموت السريري ويعيد له بعض قوة فقدت ذات زمنٍ.
ماذا جرى في هذا الوقت المستقطع منذ وفاة عبد الناصر حتى يومنا هذا؟
إن محاولة الاجابة عن هذا السؤال الكبير تفترض بالضرورة أن نقرأ مشهديتنا من أربيل مرورًا باليمن فالخليج ،وضمنه العراق وسوريا ولبنان، لنبحر من فلسطين نحو مصر، فجنوب السودان وارتيريا، وقبلهم وبعدهم ليبيا الجريحة، ومن تبقى من هذا العالم العربي ينتظر دوره للسقوط أو يتحامل على نفسه بالصمود.
لاحقًا مع سقوط نظام البعث في العراق وإعدام صدام حسين وقبله رحيل حافظ الأسد، كان قد بدأ خريف العرب يتمدد بشكل شبه كلي بعد أن أسس لهذا الخريف موت عبد الناصر وهواري بومدين بسرّين غامضين حتى يومنا هذا، لتتجاذب هذا العالم العربي كماشة سياسية متناقضة ،ولكنها مؤثرة جدًا في البنية المذهبية والاجتماعية والسياسية العربية، فضلاً عن المؤامرات الخارجية المباشرة التي قادتها ولا تزال تقودها حتى يومنا هذا الولايات المتحدة الاميركية، بجميع إداراتها ورؤسائها المتعاقبين. ولكن ماذا عن الكماشة التركية الايرانية وتأثيرها الجذري في العالم العربي؟
كلا البلدين لهما مصالح وتطلعات في العالم العربي، وهما نموذجان اشتغلا وفق أيديولوجيتهما المعروفتين. فالحلم العثماني تجدد مع حزب العدالة والتنمية الذي بدأ، بما يملك من مساحات، ينفك عن قيم مبادىء أتاتورك. وذهب نحو إنعاش الحركات الدينية المتماهية معه في العالم العربي كحركة الاخوان المسلمين، ولا سيما أن لتركيا أطماعًا ومصالح حيوية في هذا العالم؛ اقتصادية وسياسية وجيو- سياسية؛ من هنا ومع استمساك حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان، بالنظام السياسي التركي، وضع هذا الرجل كل طاقاته من أجل التمدد بمشروعه السياسي عربيًا. فهو سعى، وما يزال، الى دعم الجماعات الاسلامية المتطرفة وتفريخها، بغية قلب أنظمة الحكم وتحويلها الى جمهوريات دينية تشبه نظامه وتحقق زعامته على المنطقة، بقيادة الأخوان المسلمين.
وتجربة التدخل التركي في سوريا لم تنته فصولها بعد، بل هي تمادت في وضوحها، وتمددت نحو ليبيا في سعي مباشر لوضع قدم لها في شمال أفريقيا بعد أن شعرت بالهزيمة جراء إزاحة الحركة الاسلامية عن السلطة في مصر بقيادة محمد مرسي، علمًا أن لها أيضًا أرضية سياسية خصبة في الجزائر تسعى لاستعادتها مرةً أخرى نظرًا الى موقعية الجزائر في شمال أفريقيا العربي وغير العربي، هذا فضلاً عن مصلحتها في محاولة الدخول الى العمق الافريقي غير المسلم وغير العربي لتنازع فرنسا على ترِكتها في المستعمرات السابقة المجاورة لدول شمال أفريقيا العربية. وهو ما يفسر أيضًا محاولة تركيا لوضع اليد على الإرث السعودي الاسلاموي المتراكم منذ عشرات السنين في تلك المناطق، بعد أن بدأت المملكة تفقد تأثيرها المباشر هناك.
أما التجربة الايرانية فهي تجربة ملتبسة ومعقدة. فقد بدأت مع انتصار الثورة الاسلامية سنة 1979، بقيادة الامام الخميني، حيث تميزت منذ اليوم الأول بأنها أغلقت أبواب السفارة الاسرائيلية في طهران لتحل مكانها سفارة فسطين. وقضت على النظام الملكي الذي كان بمثابة شرطي تستخدمه الولايات المتحدة في الخليج تماماً كما هو دور اسرائيل في منطقتنا. لكن سرعان ما وقعت الحرب بين العراق وايران، فلام كثيرون صدام حسين على فتح تلك الحرب وهو الذي كان مدعومًا من جميع دول الخليج العربي، المدفوع هو الآخر من الولايات المتحدة الاميركية. ولكن هذه الحقيقة التاريخية لم تلغ حقيقة أخرى تبدّت من خلال مفهوم تصدير الثورة الاسلامية الايرانية، حيث تفاعلت ايران مع مجموعات دينية تشبهها، وتحديدًا مع شيعة العرب، الأمر الذي فسره عرب كثيرون بأنه تدخل غير بريء، واستشعروا معه بخطر ايراني يهدد بنيتهم الاجتماعية كما أنظمتهم السياسية وينذر بتفككهم مع مرور الوقت.
وربما هذه واحدة من أكبر الثغرات التي وقعت فيها ايران الإسلامية. فهي، بهذا المعنى، أوقعت نفسها في مأزق مع غالبية العالم العربي السني ، ولم تتمكن من بناء علاقات مع هذه الدول تقوم على الاحترام المتبادل، وتترك لشعوبها أن تقرر مصيرها بنفسها، كما تراه مناسبًا لها في أوطانها التي تعيش فيها بالتكافل والتضامن مع سائر المكونات الأخرى، كما حصل لاحقًا مع ثورات الربيع العربي منذ عام 2011، على الرغم من التدخلات الخارجية المختلفة لدى المعارضة والأنظمة على حدٍ سواء، والتي أوهنت تلك الانتفاضات وحولتها عن مسارها في ما بعد، فكان مآلها إما الموت السريري وإما الارتماء في أحضان مصالح دول خارجية.
وفيما كانت كل من ايران وتركيا تخوضان حروبًا صغيرة وبالوكالة ضد بعضهما بعضا في أكثر من بقعة عربية، فإنهما بقيتا متفاهمتين ومتعاونتين في مسألة الشعب الكردي. ولقد جرى منذ أسابيع قليلة حوار عبر الانترنت بين زعيمي البلدين روحاني وأردوغان، اتفقا في خلاله مجددًا على أن دولتيهما ضد أيّ نزعة استقلالية كردية، وأكدا مواجهة حزب العمال الكردستاني حتى في عمق الاراضي العراقية. مع الإشارة الى أن الدولتين المذكورتين تقفان مع القضية الفلسطينية ضد الاحتلال الاسرائيلي، غير أن لتركيا علاقات مع إسرائيل ما يجعل موقفها تجاه فلسطين موضع شبهة، في حين أن الموقف الايراني من جهة العداء لإسرائيل، مترجم عبر دعم حقيقي لحزب الله ولحركة حماس، وهذا أمر واضح ولا لبس فيه بخلاف ما هو عليه الموقف التركي، وهو ما يتبدى أيضًا في وقوف ايران الى جانب أرمينيا التي تتعرض لعدوان من أذربيجان المدعومة من تركيا وإسرائيل على حدٍ سواء.
إذًا، التجربتان الايرانية والتركية لم تكونا، بنسبٍ مختلفة ومتفاوتة، نموذجيتين لتقديم عوامل مطمئنة للعالم العربي الذي يعاني ما يعاني من ترهل وضعف على جميع الأصعدة. ويبدو أنّ هذا العالم العربي، مستعدٌ لأن يقوم بما تمليه عليه الادارة والارادة الاميركية بلا أي صوت اعتراضي من أنظمته، بل قدم هذا العالم العربي، ويقدم دائمًا كل ما تطلبه منه واشنطن، وها هو اليوم يهرول بأكثر نُظُمه، تطبيعًا مع العدو الصهيوني ظنًا منه، أنه بذلك، يحمي أنظمته الملكية والاميرية المستمدة من بعدها العشائري والقبائلي المتخلف.
لماذا عبد الناصر حاجة ملحة اليوم؟
بناءً على ما تقدم، وبالرغم من أن أنظمة الحكم الواحد والزعيم الواحد أصبحت من الماضي، فإننا في العالم العربي، ومع ضعف حالنا ودولنا، أصبحنا في أمسّ الحاجة الى قائد عربي من طينة عبد الناصر ولكن بتطلعات عصرية نوعية، يعيد تصويب البوصلة ولمّ شتات العرب الخائفين والضائعين، ويضع حدًا للطامعين ويبني علاقات حقيقية مع الغيارى والأصدقاء الحقيقيين، بهدف تحقيق غرضين أساسيين:
أولاً: وقف الهرولة نحو كيان العدو، وتأكيد حقّ قيام دولة فلسطين وفاقًا للقرارات الدولية بهذا الصدد، في الأقلّ، في محاولة لتجميد القضية عند هذه الحدود، وعدم السير بها نحو نهايتها باتجاه خدمة مصالح إسرائيل وأميركا من خلفها.
ثانيًا: تطوير الأنظمة السياسية العربية، وبناء دول عصرية حديثة، تكون فيها حرية الرأي والتعبير مصانة، وتحفظ حرية المعتقد، من خلال فصل الدين عن الدولة، فضلاً عن الاستثمار الأمثل للاقتصادات الوطنية بشكل منتج يؤمن لاحقًا الاكتفاء الذاتي.
فهل من ناصرٍ عربي جديد يعيد للعرب مكانتهم تحت الشمس؟