في الذكرى الخمسين لتأسيس “السفير”: طلال سلمان الصديق الذي يسكن فكري وقلبي (كامل مهنا)
بقلم د.كامل مهنا – الحوار نيوز
كنا أمس على موعد مع الأستاذ طلال ، مع وجهه الباسم مرة، والمتجهم مرة أخرى، الحالم المعتز بتجربته العظيمة، والمخذول بما وصل إليه مصير الأمة. كنا على موعد مع استحضاره، بالصوت والصورة، نتأمل صوته ولغته وأفكاره وعظمته. بقينا ما يقرب الساعة، نتنقل، في الفيلم الذي أعده عن سيرته المخرج محمود حجيج في العام 2009، ويعرض في الموعد السنوي نفسه الذي كنا ننتظره، عندما كان يحتفل مع أسرة “السفير”، في 26 آذار من كل عام، بتحقيق حلمه بانطلاق الجريدة.
أعترف أني أثناء عرض الفيلم، كنت أخطفه وأذهب بعيداً معه، من حين إلى آخر، فلي مع “أبو أحمد” ما لا يتسع له فيلم أو كتاب. هو صديق عمر لا يُغيّب صداقته رحيل، توأم الروح الذي كانت تجمعني به قواسم فكرية ونضالية، أولها أن بوصلتنا، نحن الإثنين، تشير إلى أن النضال وجهته فلسطين. وثانيها أننا رغم كل ما أصاب الأمة التي ننتمي إليها من نكبات، لا نزال نحلم بخلاصها، ولا تزال تستحق منا بذل الغالي والرخيص. وثالثها أن كرامة الإنسان هي الهدف الدائم، الذي نسعى له كلٌّ بطريقته.
أخذنا الفيلم الذي عرض عن سيرة الصديق الكبير طلال سلمان، إلى السؤال المرّ عن فراق الأحبة، أنا الذي هدني الفقد ورحيل الأحبة، وقد خطفت الحروب منا أعز معارفنا، وانفطر قلبي برحيل ابني البكر الذي لا يزال وجهه معلقاً أمام عينيّ. ولم يكن سهلاً عليَّ أن أصدّق رحيل الأستاذ طلال ، أعز الأصدقاء الذي ل تفرقنا يوماً قسوة الأيام، ولا ضغط العمل، ولا المناسبات والسفر ومشاغل الدنيا. طلال سلمان الذي إن نسيت نفسي يوماً وجدتني أطرق باب جريدته، أو احتجت إلى مشورة أجده العنوان، أو حتى إلى استراحة وجدنا نفسنا نأنس معاً، وبصحبة أسرتينا.
أعترف أنني، وأنا أشاهد وقائع الفيلم، كنت أشرد معه إلى المحطات التي شكلت حياتنا، إلى العلاقة الإنسانية والاجتماعية والسياسية والشخصية التي ربطتنا، أستحضر لحظات القوة، والتمرد، والتصميم، والنضال الذي لم يكن له سقف. لم يخرج طلال إلى الناس من شرفة قصر، ولا من ديوان سلطان، ولا من بيت سياسي، ولم تقدم له الجريدة على طبق من فضة، فقد ناضل وكابد واشتغل، متنقلاً بين صحيفة وأخرى في لبنان وخارجه، كأنه كان يبحث عن هدف مجيد له في الحياة، أكثر من أن ينشر مقالة، أو يلتقي بزعيم، أو يحصل مرتباً مرقوماً. كان رجلاً حالماً في كل ما تعنيه الكلمة، يعرف أن حلمه صعب، لكن المثابرة والجلد اللذين يتصف بهما، لم يكونا لدى سواه. وقد بقي أميناً لمبادئه وأحلامه حتى نال مبتغاه، وكانت “السفير”.
لم يرَ طلال سلمان في “السفير” مشروعاً شخصياً، ولا مشروعاً مالياً، إنما رأى فيها مشروع حياة ورسالة، وصفحات تحمل أحلامه ورؤاه وأفكاره وإصراره على استعادة الروح النضالية، رغم الهزيمة التي هدت الجسم العربي عام 67، وكسرت الحلم القومي، وهو العروبي حتى النخاع، الناصري الذي بقي يحلم بزعيم يماثل بطل الأمة، وقد أبقى صورة عبد الناصر أمام عينيه، بل جعلها تتصدر الصفحة الأولى للجريدة، التي زينها بشعار “جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان”. وهو من جعل “السفير” بيت كل من يشبهه من المناضلين والمثقفين العرب، كل عروبي ووطني وتقدمي ورائد تغيير. لم يرد أن تكون “السفير” مجرد مكتب أنيق يحسب الخسارة والربح، إنما أرادها مركزاً وملتقى لكل مخلص في هذه الأمة، وكم كنت ألتقي في مكتبه مثقفين كباراً تعرضوا من سلطات بلادهم للنفي أو الاضطهاد، أو أتوا ليستضيئوا برأيه، أو ليجدوا متسعاً لمعاناتهم ومعاناة بلادهم في صفحات الجريدة.
يكفينا فخراً أن نستعيد ما حملته “السفير” من عناوين كان لها الأثر الكبير في نفوس قرائها، وتربت على مضمونها أجيال، فلا ننسى عندما كان يتوقع كثيرون أن تُسكت دبابات العدو الإسرائيلي التي دخلت بيروت عام 1982 “صوت الذين لا صوت لهم”، صوت المقاومة الفلسطينية والوطنية اللبنانية، وإذ بها تخرج عليهم بمانشيت مشرّف: “بيروت تحترق ولا ترفع الرايات البيضاء”. كذلك لا ننسى المانشيت التي خرجت بها “السفير” عندما تعرضت مطابعها لتفجير آثم، في العام 1980: “الصحافة ضحية الإرهاب مجددا: تفجير مطابع السفير”، ثم محاولة الاغتيال التي تعرض لها ناشر “السفير” عام 1984، فتركت ندوباً في وجهه ومشكلة في فكه رافقته سنين طويلة، لكن الجريدة خرجت بمانشيت: “نجا طلال سلمان.. والسفير مستمرة”. وسوى ذلك، تعرض طلال سلمان للكثير من محاولات الاغتيال والإرهاب، وتعرضت الجريدة كذلك منذ يومها الأول للكثير من الدعاوى القضائية والضغوط السياسية وقرارات الإقفال. وبقي طلال سلمان جبلاً صامداً، لم تثنه عن أهدافه وأحلامه كل النوائب.
حكايتي مع هذا الصديق الكبير لم تكن شخصية فقط، ولم تقف عند حدود التناغم الفكري والسياسي، ففي الوقت الذي كنت أشعر فيه بأن “السفير” جريدتي وبيتي، كان طلال سلمان يعتبر “مؤسسة عامل” مؤسسته التي تستحق منه كل اهتمام، فيفسح لها مساحة في صفحات الجريدة، وينشر كل خبر نرسله، بالإضافة إلى أننا لا نوفره في أي منعطف أو مشكلة، أو قضية، أو فكرة تخص مستقبل المؤسسة وتطلعاتها، فنستشيره، مهتمين برأيه الراجح، وخبرته الكبيرة، ومعرفته الواسعة. وعندما طلب مني أن يكون لبلدته شمسطار حصة من أنشطة “عامل”، سارعنا إلى إنشاء مركز صحي تنموي لمؤسستنا في البلدة، ولا يزال هذا المركز يتفاعل مع أهالي البلدة، ويقوم بواجبه اتجاههم، ويستمر عنواناً لتلك المسيرة المشتركة بيننا كمؤسسة وبين الأستاذ طلال.
إن ما رأيناه في هذا الاحتفال، من سيرة قدمت في الفيلم، وحضور لأصدقاء وإعلاميين جاؤوا ليحتفلوا بمناسبة خمسينية انطلاقة الجريدة، ودعوة الأجيال الجديدة إلى الكتابة لموقع طلال سلمان الإلكتروني بحلته الجديدة، إلا نافذة جديدة نطل من خلالها على تلك القيمة المشعة، والتجربة الصحافية والإنسانية التي تبقى ذخراً للأجيال المقبلة، وإرثاً غنياً لكل باحث.
ويبقى طلال سلمان، أولاً وآخراً، الصديق الذي يسكن قلبي وفكري، ولم يغادر يوماً ذاكرتي، ولا عينيّ.