ظهر فولوديمير زيلينسكي على شاشات التلفزيون الأوكرانية أول مرة ممثلا دور رئيس للدولة، في مسلسل كوميدي ذي شعبية كبيرة في البلاد.لكن سرعان ما أصبح التمثيل واقعا،وانتخب زيلينسكي رئيسا بالفعل عام 2019،ليقود بلدا يبلغ عدد سكانه 44 مليونا، ويواجه غزوا عسكريا روسيا.
كان زيلينسكي يؤدي -في مسلسل “خادم الشعب” التلفزيوني- دور مدرس تاريخ بسيط يصبح بمحض الصدفة رئيسا للجمهورية، وذلك عقب انتشار شريط مصور يظهره وهو يستخدم ألفاظا نابية ضد الفساد. كانت تلك قصة خيالية استولت على مخيلة الأوكرانيين الذين كانوا قد ضاقوا ذرعا بالسياسة بشكل عام.
أصبح “خادم الشعب” اسم الحزب السياسي الذي أسسه، واستخدمه لنشر نهجه السياسي الذي كان يدعو إلى تطهير الحياة السياسية من الفساد وإحلال السلام في المناطق الشرقية من البلاد.
لم يكن الطريق الذي سلكه زيلينسكي إلى سدة الرئاسة طريقا مألوفا بأي حال.فقد ولد 28 كانون الثاني 1978 في بلدة “كريفي ريه” وسط أوكرانيا لأبوين يهوديين، وتخرج من جامعة كييف الوطنية للعلوم الاقتصادية التي حصل منها على شهادة في القانون. ولكنه وجد ضالته في الكوميديا.
كان زيلينسكي في شبابه يشارك بشكل منتظم في برنامج فكاهي تنافسي كان يبث من خلال التلفزيون الروسي. وفي عام 2003، شارك في تأسيس فريق إنتاج تلفزيوني ناجح أطلق عليه اسم كفارتال 95.
أنتج هذا الفريق برامج لشبكة 1+1 التلفزيونية الأوكرانية التي قام مالكها الملياردير إيغور كولومويسكي لاحقا بدعم حملة زيلينسكي للفوز برئاسة الجمهورية.
لم تكن السياسة الاهتمام الأول لزيلينسكي لغاية أواسط العقد الثاني من هذا القرن، إذ كان جل اهتمامه منصبا على عمله التلفزيوني والسينمائي (في أفلام مثل “الحب في المدينة الكبيرة” (2009) و”ريفسكي مقابل نابوليون” (2012)).
كانت الأحداث المضطربة التي شهدها عام 2014 مسرح صعود زيلينسكي المفاجئ في عالم السياسة، وذلك عقب الإطاحة بالرئيس الأوكراني الموالي لروسيا، فيكتور يانوكوفيتش، بعد “احتجاجات” دامت عدة شهور.
بعد ذلك، ضمت روسيا شبه جزيرة القرم إليها وبدأت بتقديم الدعم والإسناد للإنفصاليين في شرقي أوكرانيا في حرب تصاعدت بشكل خطير في الأيام الأخيرة.
وبعد عام واحد، أي في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2015، عرضت الحلقة الأولى من مسلسل “خادم الشعب” للمرة الأولى عبر شبكة 1+1. أدى زيلينسكي في المسلسل دور فاسيلي غولوبورودكو الذي كان صعوده السريع إلى القمة مشابها لما حققه زيلينسكي في مستقبل الأيام.
في عام 2019 تمكن زيلينسكي من الفوز على الرئيس آنذاك بيترو بوروشينكو، الذي سعى إلى تصوير منافسه على أنه سياسي مبتدئ ، رغم أن الناخبين اعتبروا ذلك ميزة من ميزات زيلينسكي المحمودة.وانتخب زيلينسكي بأغلبية كبيرة بلغت 73,2 في المئة، وأدى اليمين الدستورية رئيسا لأوكرانيا في الـ 20 من مايو/أيار 2019.
جمود في دونباس
حاول زيلينسكي تنفيذ وعده بإنهاء الصراع الدائر في شرقي أوكرانيا، وهو الصراع الذي خلّف 14 ألف قتيل على الأقل.فقد سلك طريق التوافق أول الأمر، إذ جرت مفاوضات مع روسيا وتبادل للأسرى ومحاولات لتطبيق بنود اتفاق مينسك للسلام. ولكن هذه المحاولات لم تتابع بشكل جدي.
لم يفلح زيلينسكي في زحزحة عملية السلام بعد سنوات من الصراع في شرقي أوكرانيا.وكان لقرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منح سكان المناطق الشرقية المحتلة جوازات سفر روسية، أثر في تقويض روح التفاؤل والمصالحة. ورغم دخول قرار وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في تموز / يوليو 2020، استمرت الاشتباكات بين الجانبين بشكل متقطع.وما أثار غضب الرئيس الروسي سعي زيلينسكي الأكثر حزما لضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو).
لم يكن من اليسير لزيلينسكي أن يصور نفسه كرجل دولة، وكان منتقدوه يشيرون بشكل مستمر إلى افتقاره للخبرة السياسية.ولكنه تميز بالنبرة المطمئنة لخطابه قبيل الاجتياح الروسي، رغم التحذيرات الغربية من قرب وقوعه ، إذ كان يشير إلى أن الأمر ليس بالجديد بعد سنوات ثمان من الحرب. وقال آنئذ “يمكن لصبرنا أن يكون له أثر على الاستفزازات، عندما لا نرد عليها ونتصرف بعزة وكرامة.”
وحاول لم شمل الأوكرانيين من خلال الاحتفال بيوم للوحدة الوطنية في الـ 16 من فبراير/شباط، كما قام بعدة زيارات للجنود المرابطين على الخطوط الأمامية.
وقال زيلينسكي لبي بي سي، ردا على سؤال عما إذا كان التهديد العسكري الروسي كافيا لثنيه عن سعيه للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، إن الأمر الأهم بالنسبة له كرئيس لأوكرانيا ألا يخسر بلده. وقال: “نحن بحاجة إلى ضمانات. فبالنسبة لنا، ليس حلف الأطلسي (ناتو) مجرد أربع كلمات، بل يعني ضمانا لأمننا.”
التصدي للأثرياء
واجه زيلينسكي صعوبات جمة في الوفاء بوعد آخر من وعوده الانتخابية، وهو وعد التصدي للنفوذ السياسي والاقتصادي الكبير الذي يتمتع به كبار الأثرياء الأوكرانيين.وعبّر منتقدوه عن شكوكهم في جديته في ذلك، آخذين بعين الاعتبار علاقاته الحميمة مع إيغور كولومويسكي، الثري الذي دعمت إمبراطوريته الإعلامية حملة زيلينسكي الانتخابية.ولكنه صعّد مع ذلك من تصميمه على تنفيذ برنامجه الخاص بالتخلص من نفوذ كبار الأثرياء.
حاول زيلينسكي النأي بنفسه عن الثري كولومويسكي، واستهدفت حكومته عددا من كبار الأثرياء الأوكرانيين، بمن فيهم زعيم المعارضة الموالي لروسيا فيكتور ميدفيدتشوك الذي وضعه قيد الإقامة الجبرية بتهم منها الخيانة العظمى ،وهي تهم وصفها ميدفيدتشوك بأنها ترقى إلى “قمع سياسي”.ثم سن زيلينسكي قانونا شمل تعريفا للأثرياء المتنفذين وفرض عليهم قيودا عديدة منها منعهم من تمويل الأحزاب السياسية.
لكن بعضا من منتقديه اعتبروا هذه الإجراءات المناوئة للفساد صورية وتجميلية، قائلين إن الغرض منها كسب رضا إدارة بايدن الأمريكية التي يعتبرها زيلينسكي درعا واقيا في مواجهة روسيا.
واجه زيلينسكي عدة إحراجات في سعيه للحصول على دعم بايدن.ففي يوليو/تموز 2019، طلب الرئيس الأمريكي الجمهوري آنذاك دونالد ترامب من زيلينسكي “خدمة” في مكالمة هاتفية بين الرئيسين. طلب ترامب من زيلينسكي التحقيق في اتهامات بالفساد موجهة إلى بايدن الذي كان آنذاك المرشح الديمقراطي المفضل للفوز بالرئاسة الأمريكية.ووعد ترامب زيلينسكي مقابل ذلك باستضافته في واشنطن وتوفير دعم عسكري لأوكرانيا.
التقى زيلينسكي الرئيس بايدن في البيت الأبيض في أيلول / سبتمبر 2021،ولكن بعد أن فضح مسرّب تفاصيل المكالمة، اتهم ترامب بممارسة ضغوط بشكل غير قانوني على الرئيس الأوكراني لإجباره على البحث عن معلومات مضرة بمنافسه السياسي.
أصر ترامب على أنه لم يرتكب عملا خاطئا، بينما نفى زيلينسكي أن يكون قد وُعِد بأي شيء. وجه الديمقراطيون إذ ذاك اتهامات رسمية لترامب، ولكن إجراءات عزله لم تكتمل عقب محاكمة ذات صبغة سياسية في الكونغرس.
وكان لزيلينسكي نصيبه من الفضائح أيضا.ففي أكتوبر/تشرين الأول 2021، ورد اسمه في وثائق باندورا – التسريب الكبير لوثائق فضحت الثروات المخفية العائدة لكثير من أغنياء العالم وقادته.
وكشفت الوثائق بأن زيلينسكي والمقربين منه يهيمنون على شبكة من الشركات المؤسسة في ملاذات ضريبية.ولكن زيلينسكي قال إن الوثائق لم تأت بجديد، ونفى بأن يكون هو أو أي من أفراد شركته – شركة كفارتال 95 – من الضالعين في عمليات غسيل أموال.