فولكلور الحكومة اللبنانية الكونية
مطلوب للبنان حكومة من الاختصاصيين المستقلين بالكامل برئيسها وأعضائها ،لا علاقة لهم بالسياسة والسياسيين والأحزاب،ولا ب"الشعوب اللبنانية المتناحرة" ،تكون منسجمة مع مجلس نيابي تشكل الأحزاب نسبة 95 بالمائة منه على الأقل!!
حكومة ترضي الحراك الشعبي والانتفاضة والثورة والطوائف العنيدة والعلمانيين والمجتمعين العربي والدولي ،وتلبي مطالب الناس وتكافح الفساد وتنقذ الاقتصاد وتحقق الإصلاحات المالية،وتنجز قانونا جديدا للانتخاب تتفاهم عليه كل الشرائح اللبنانية ،وتمحو من ذاكرة اللبنانيين كل تراكمات العقود الماضية منذ الاستقلال،الى آخر "المندوحة اليومية" لكل الأطراف السالفة الذكر!!
هذا المساء وربما أكثر من ليلة، سوف يعكف الرئيس المكلف حسان دياب على دراسة هذه اللائحة السالفة الذكر ،وبالتأكيد سوف يجافيه النوم مغالبا السهاد والأرق ،فلا يطلع عليه الصباح إلا وقد اعتذر عن هذه "المهمة المستحيلة" التي يعجز عن تنفيذها نجم السينما الأميركية "توم كروز" وفريق عمله الذي لم تصعب عليه أقسى المهمات..ولكن في الأفلام الهولوودية.
إن "الحكومة الكونية الافلاطونية" التي تريدها "الشعوب اللبنانية" هي نوع من الفولكلور اللبناني المزمن ،وهي لا تتخطى طاقة حسان دياب فحسب ،بل هي حكومة أقرب الى الخيال يعجز عن قيادتها وتحقيق مطالبها أي لبناني آخر مهما علا كعبه.وهذه هي الأسباب:
أولا: واهم من يعتقد أن في لبنان اختصاصيين مستقلين لا ولاء سياسيا لهم .مثل هؤلاء يفترض استيرادهم من السويد والدول الاسكندنافية . فلبنان بلد صغير والناس تعرف بعضها جيدا ،والنظام الطائفي غدار وكشّاف للولاءات.
ثانيا:إن الحكومة المستقلة تماما (اذا ما توفرت) تعني :إما الغاء المجلس النيابي ونتائج الانتخابات الأخيرة ،أو يكون المجلس على صدام دائم مع الحكومة اذا ما تجاوزت الخطوط الحمر ،إلا اذا اعتبر البعض أعضاء الحكومة والمجلس من صنوف القديسين.
ثالثا: ليس من السهل على أي حكومة أن تعالج تراكمات عقود من الزمن من دون صراعات ودم ودموع وأوجاع ضريبية وتقشفية سوف يعاني منها المواطنون بالدرجة الأولى .وعليه لا يجب تحميل حكومة حسان دياب سلفا ما يمكن أن تنوء بحمله الجبال.
رابعا:واهم من يعتقد أن الحكومة العتيدة قادرة على محاكمة الفاسدين واستعادة الأموال المنهوبة .فحسان دياب ليس محمد بن سلمان ولا يملك السلطة التي يتمتع بها ولي العهد السعودي ،وليس عندنا فندق يتسع للفاسدين،كل الفاسدين.واذا ما استطاع الرجل وقف الهدر وضبط المرافق ووقف النهب المنظم وغير المنظم من الآن وصاعدا،سوف يسجل اسمه في التاريخ بأحرف من نور.
خامسا:إن رب العباد (جلّ وعلا) لا يرضي كل العباد ،فكيف للعبد أن يرضي العباد جميعا.ورحم الله من قال:"نصف الناس مع الحاكم اذا عدل ..فكيف اذا لم يعدل "؟
سادسا :هل يمكن لحكومة لبنانية مستقلة أن تعزل نفسها عن المداخلات الإقليمية والدولية والشروط والشروط المضادة والبنوك وصناديق النقد الدولية،في وقت يحتاج فيه لبنان الى الدعم المالي والاقتصادي لتيسير أموره بانتظار الذهب الأسود والغاز الموعود في بره وبحره؟
أمام ما تقدم علينا ألا نحمّل حسان دياب ما لا يحتمل.فقليل من التواضع والتوقعن خير من الصدمة .ولبنان يحتاج الى عهود لتصحيح ما فسد من أوضاعه ،وسبعة عقود من الترقيع والدجل والتسويات المؤقتة لا يمكن تعديل ميزانها بين ليلة وضحاها .
يبقى أن المعالجات بعقلية ما قبل 17 تشرين الأول الماضي لم تعد مجدية ،ولو كان هذا ممكنا لما قُيّد لحسان دياب اليوم أن يكون رئيسا لحكومة لبنان .وواهم من يعتقد أن الإصلاحات الاقتصادية والمالية باتت كافية للخروج من الأزمة،بل يفترض أن تقترن بإصلاحات سياسية جذرية ،تبدأ بقانون انتخابي عادل على أساس الدائرة الواحدة تعقبه انتخابات نيابية تكشف الاحجام الحقيقية في البلاد ،وتخرج لبنان من حالة "الزعبرة" واختراع الحجج والذرائع الواهية غب الطلب وبحسب الحاجة.
قبل أربعين عاما قال "الفقيه" زياد الرحباني في مسرحية "فيلم أميركي طويل":
قوم فوت نام ..وصير حلام..انو بلدنا صارت بلد ..قوم فوت نام ..بهالأيام ..حارة بيسكّرها ولد..
منذ أربعين عاما ما يزال الفيلم الأميركي مستمرا برعاية ديفيد هيل ..وما زال الأولاد يسكّرون الحارات.. والشوارع أيضا.
إنها ليست دعوة لليأس ،بل هي دعوة للتواضع.يرحمكم الله!
واصف عواضة