رولا فارس ضيا* – البرازيل الحوارنيوز- خاص
سأحاول قدر الإمكان ألا أكون مثالية او عاطفية، رغم أن هنا الشّمس تهدينا ضياءها وتفتح لنا نوافذ الأمل لندس قمح المستقبل.
أدرت محرك سيارتي وتوجهت نحو جسر الصداقة الذي يربط مدينة فوز دو إيغوسو البرازيلية وسيوداد دي ليستي الباراغوانية.
إجراءات حدودية شبه عادية رغم جائحة كورونا، طابور من الشاحنات يقف على جانبي الطريق. أعبر نهر البارانا، نحو مدينة سيوداد دي لستي الشهيرة. لوحات عملاقة للإعلانات التي تروج للمتاجر الموجودة في المنطقة والتي تجذب الالاف من البرازيليين، غالبية تلك المتاجر هي لرجال أعمال لبنانيين.
على هذا الجسر عبرتْ نسور من الجالية اللبنانية وأحلامهم خلفهم قناديل هدًى.
عرقٌ وتعبٌ وهمٌّ وأمل…منهم من حقق نجاحات مرموقة بفضل تعبه وقدراته ومنهم من أغلق باب الحلم، ومنهم من تجرّع طعم الظّلم…ولأنني تعهدت بأن اكون واقعية أقول: منهم من لهم خطواتٌ مبعثرة يتقاسمون الحياة مع الفتنة، ويتسابقون لنيل وسام الشّرف بغير حق.
جميعنا عبرنا على هذا الجسر ذات يوم، إمّا للعمل وإمّا لشراء الحاجات الّتي غالبًا ما تكون أقلّ سعرًا من البرازيل.
نتزاحم وباصات السّوّاح البرازيليّين والأرجنتينيّين، نعود منهكين متعبين، لنعبر النّهر مرّةً أخرى إلى مدينة النّدى – فوز دو إيغواسو. نعانق وجه الحلم، ونصارع الأنا لنستيقظ في اليوم التالي ونتبع ذات التقليد.
كانت همومنا تُختصَر بعناء الغربة، وضياع الهوية، وتأمين العيش الكريم، إلى أن جاء العنكبوت الأسود وتحوّلْنا قرابين للثّأر، تارةً باسم الدّين وتارةً باسم الإرهاب. ظُلِم البعض وتعرض البعض الآخر لازدواجية في المعايير أقل ما يقال عنها أنها وقحة، من جانب أعلنوا عن محاربة الإرهاب ومن جانب آخر مارسوا سياسة إرهابية وافتراءات مقصودة.
بالمختصر المفيد، ممنوعٌ علينا التّحليق نحو البعيد؛ فطموحنا منذور دائمًا للقلق، مشغولٌ بغبش الرّؤية وفوضى حائرة تعبة باحثة دائمًا عن حجج لتبرير إنسانيّتنا. كلّ ذنبنا أنّنا قوم وُزّعنا في المسافات والمدى كي نردّد أناشيد الفرح، نختبئ كلّما داهمَنا صوت المدفع أو واجهتْنا متاريس العدم. وصل اللبنانيون الى تلك المنطقة منذ القرن التاسع عشر، ثم ازدادت الهجرة بعد الحرب الأهلية ثم الإحتلال الغاشم. حلموا وعملوا وتعبوا وكبروا وضاقت المسافات بين الأمل والوطن، رسموا لوحات عليها ألف حكاية وغصة.
شوه البعض وجه الآخر؟؟ صحيح!!! فلطالما ما عشعشت الأنانية بين أغصان العمل الجماعي ولذلك جاءت النجاحات فردية وعجزت عن بناء اسس لجالية موحدة.
ولكن بعضهم من اغترف الحب من بؤر العدم ليساعد اهله في الوطن، ومنهم من واس أخاه من وجع الغربة ووجع العوز وبدد حاجاته الموحشة بإنسانية مبهرة.
أيّ عرّافة تستطيع فكّ اللّغز حول هذه المنطقة الملتحفة حجابَ الأمل؟ كيف نفكّ شيفرات صنّاع الحروب والقتل وبعض تجّار الكره الّذين يتناوبون على رمي ثقافتنا بجمرات النّفاق، وتقديم الولاء لجلّادٍ تسلّل خلسةً ليهدم الحلم والأمل
نحن محكومون بفتنةٍ عمياءَ. نبحث، ههنا، عن بقايا أجزائنا الضّائعة.
بين شوارع هذه المدينة تغرق سنوات العمر في عبابٍ تلاطمه الأحلام والمنى.
قلقٌ كبيرٌ في تضاريس الوجوه هنا! عالقون بين هويّتين، والقلب خارطة مقسّمة بين بلادٍ أعانتْهم على الاهتداء وأنقذتْهم من جنون الحاجة واستبداد الطّغاة، وأخرى تخضعهم لحنينٍ معتّقٍ جفّتْ ينابيعه في تيه الفساد وضاعت على أرصفة الطّائفية والحلم ببناء وطن.
رغماً عن أنف كل التقارير والمقالات، وكل الاستبداد والافتراء، وكل المحاولات المستمرة لشيطنة هذه المنطقة. يتولد لدى الجالية اللبنانية هنا اقتناع راسخ بأهمية المقاومة. مقاومة الظلم والافتراء والاستبداد والتبعية، سلاحهم الايمان والعلم والعمل الاجتماعي والنجاح المهني خصوصاً في مجال الطب والمحاماة والهندسة والانخراط بالعمل السياسي. ورغم انه يأخذ عليهم أن تعاونهم الجماعي محدود وان النجاح مسعى فردي يضعف توحيد المواقف التي تصب بمصلحة الجماعة ولكن
جيلٌ جديد ينحت الرجاء في ثنايا الجالية هنا، يحيا لبنان في داخله رغم بعد المسافة ورغم الواقع الحزين لوطن ضاع على أرصفة الفتن. هذا الجيل يبنى عليه آمال كثيرة خصوصاً انه على تواصل مباشر ودائم مع الثقافة اللبنانية واللغة والوطن.
تواصلوا معه، احضنوا نجاحاته علنا نمتص معه وعورة العدم.
*أديبة وناقدة لبنانية
زر الذهاب إلى الأعلى