الحوارنيوز – صحافة
تحت هذا العنوان كتبت ريم هاني في الأخبار تقول:
«الإمبراطورية البريطانية وورثتها احتلّوا غيانا إيسيكيبو، ودمّروا المنطقة»، و«نحن نريد إنقاذها سلمياً». بهذه العبارات، أمر الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، شركات النفط في بلاده ببدء التنقيب في مقاطعة إيسيكيبو المتنازع عليها بين كاراكاس وجارتها غيانا، بعدما كان قد أجرى استفتاءً عاماً، هو السابع من نوعه، خلص إلى موافقة نحو 95% من المشاركين على ضمّ المقاطعة، التي تشكّل نحو ثلثَي مساحة غيانا، إلى فنزويلا. كذلك، أمر مادورو، قوات بلاده المسلّحة بالانتشار على الحدود، مطالباً الشركات الغيانية العاملة في المقاطعة بمغادرتها في غضون ثلاثة أشهر، ومشهِراً خريطة لفنزويلا تشمل مقاطعة إيسيكيبو. من جهته، سارع رئيس غيانا، عرفان علي، إلى طلب النجدة من حلفاء بلاده، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، لردع فنزويلا عن المضيّ قدماً في خطّتها. وإذ أكّد علي أنه سيحتكم إلى الدبلوماسية كـ«خيار أول»، مطالباً أميركا والهند وكوبا، بإقناع مادورو بالامتناع عن «المغامرة» بأيّ خطوة من شأنها أن تزعزع الاستقرار في تلك البقعة الجغرافية، فهو أكّد، في المقابل، أنّ بلاده «تستعدّ، مع حلفائها وأصدقائها، لأسوأ سيناريو محتمل». بدورها، أرسلت البرازيل قواتها إلى الحدود مع كل من غيانا وفنزويلا، خشية اندلاع نزاع مسلّح بين البلدَين، شبيه بذاك الذي شهدته القارة اللاتينية بين بيرو والإكوادور، عام 1955. ونزولاً عند مطالب حليفتها، أعلنت السفارة الأميركية في جورج تاون، الأسبوع الماضي، أنّ «القيادة الجنوبية الأميركية»، ستجري عمليات جوية مع جيش غيانا ضمن حدود الأخيرة. وفي ضوء ما تقدَّم، وفيما تصرّ بعض وسائل الإعلام الغربية على الإيحاء بأنّ خطوة مادورو مدفوعة بـ«مطامع» هذا الأخير في الثروات النفطية في مقاطعة إيسيكيبو، فإنّ إلقاء نظرة سريعة على تاريخ هذه المقاطعة، وغيانا بشكل عام، يُظهر أنّ ثروات الأخيرتَين، بدءاً من السكر، ووصولاً إلى الذهب والنفط، كانت محطّ تركيز واهتمام القوى الاستعمارية الغربية، التي بذلت كلّ ما في وسعها لبسط سيطرتها وسيطرة شركاتها عليها – ولا تزال -، على الرغم من نَيْل هذا البلد اللاتيني استقلاله من بريطانيا عام 1966.
لمحة تاريخية
كرّست «معاهدة باريس» في عام 1814، رسميّاً، استيلاء بريطانيا على غيانا من المستعمرين الهولنديين في عام 1803، طبقاً لتقارير نشرتها مكتبة «جايستور» الرقمية الأميركية، فيما تكمن نقطة الخلاف الأساسية حول الحدود الغربية لغيانا، وتحديداً مقاطعة إيسيكيبو، في هذه المعاهدة نفسها. فالجانب البريطاني كان يزعم تاريخياً، بما في ذلك داخل مجلس الأمن، أن الحدود الغربية لغيانا لم يتم تحديدها أبداً بموجب المعاهدة، بل تمّ ترسيمها من قِبَله، «وفقاً للحدود التي ورثها من المستعمرين الهولنديين». في المقابل، كانت كاراكاس، التي تؤكد أنّ حدودها الشرقية تشمل نهر إيسيكيبو، وجميع الأراضي الواقعة غربه هي فنزويلية، تردّ بالقول إنّ حدود «غيانا البريطانية» قد تمّ التلاعب بها بوضوح «عشية الاحتلال البريطاني» لها، مشيرةً إلى أنّ الهولنديين كانوا يعرفون جيداً الأراضي التي احتلّوها، وأنّها لم تشمل حتماً تلك الواقعة غرب المقاطعة. ويرجّح العديد من المراقبين أنّ تمسك الجانب البريطاني بسرديته حول إيسيكيبو كان مدفوعاً، تاريخياً، بأطماعه في الاستفادة من ثروات الأخيرة. وفي ما بعد، فشلت جميع الاتفاقات والقرارات الدولية، التي كانت تلقى، غالباً، معارضة فنزويلا، المتمسّكة باسترجاع «أراضيها»، في وضع حدّ للنزاع، بما في ذلك إعلان «محكمة جنيف» «أحقيّة غيانا في الإقليم»، وإدراج جورج تاون له في خرائطها الرسمية، في دستور عام 1980. وحتى في الفترة التي كان مجلس الأمن يناقش خلالها استقلال غيانا البريطانية، طالبت فنزويلا بأن يراعي أيّ قرار في هذا الاتجاه مطالب الشعب الفنزويلي، وأن لا يلغي استقلال غيانا واقع أنّ هناك نزاعاً حدودياً معها. على أنه لم يتمّ تضمين مطلب فنزويلا في القرار، وصوّتت أغلبية الدول الأوروبية، باستثناء إسبانيا وفرنسا وأستراليا، جنباً إلى جنب مع 7 دول من أميركا اللاتينية، لمصلحته، فيما كان لافتاً امتناع الولايات المتحدة وكندا ودول أميركا الشمالية عن التصويت. وعلى الأرجح، كان لدى واشنطن، آنذاك، مصالح مع فنزويلا كما غيانا، ولم ترد الإضرار بها. وهكذا، وبحكم الأمر الواقع والتفوّق الاقتصادي والعسكري الذي كانت تتمتّع به بريطانيا، مقارنةً بفنزويلا المنهكة من حرب الاستقلال من الاستعمار الإسباني، بقيت تلك المنطقة خاضعة للبريطانيين.
تصرّ بعض وسائل الإعلام الغربية على الإيحاء بأنّ خطوة مادورو مدفوعة بـ«مطامع» هذا الأخير بالثروات النفطية في مقاطعة إيسيكيبو
وبعد استقلال غيانا في عام 1966، استمرّت المحاولات للحدّ من التوتّرات بين الجارتَين؛ حتى إنه تم إنشاء «لجنة مختلطة» تضمّ ممثّلين عنهما، أنشأت بدورها لجنة فرعية، مهمّتها بحث التعاون في مجال التنمية بين البلدَين. وآنذاك، كان الانقسام يشتدّ أكثر فأكثر بين «حزب الشعب الإصلاحي»، الذي ينتمي إليه الرئيس عرفان علي، و«حزب الشعب التقدمي» الذي تحوّل إلى المعارضة، ورفض، منذ البداية، أيّ شكل من أشكال التعاون بين البلدَين. وفي حزيران من عام 1968، انسحبت فنزويلا من الاتفاق، بعدما كانت مطالبها بتكثيف المشاريع الاستثمارية في المقاطعة المتنازع عليها، تُقابَل بالرفض من قِبَل «حزب الشعب التقدّمي». وحتى اليوم، لا تزال للدول الغربية، وتحديداً الشركات الأميركية العاملة في مجال النفط، مصالح كبيرة في البلاد.
الثروات المتنوّعة
بدايةً، كان الاقتصاد الاستعماري في غيانا يعتمد إلى حدّ كبير على إنتاج السكر. وبعد إلغاء العبودية، تم إحضار أعداد كبيرة من العمال من جنوب آسيا كخدم مع عقود عمل للمساعدة في الإنتاج. وبسطت الشركات الغربية، ولا سيما تلك البريطانية، سلطتها على البلاد، واتُّهمت سلطات الاستعمار البريطانية باضطهاد العاملين في حقول السكر، وهو ما سيسهم، عام 1953، في اختيار هؤلاء لمرشّح مناهض للسياسات الاستعمارية. وفي حقبة ما بعد الاستقلال، كان لا يزال للسكر دور حيوي في الاقتصاد الغياني، قبل أن يتجاوزه، بدءاً من العقد الماضي تقريباً، الذهب. وأخيراً، اكتشفت مجموعة تقودها «إكسون موبيل» الأميركية ما يُقدّر بنحو تسعة مليارات برميل من النفط والغاز، وهي كمية من المتوقّع أن تُحدث تحوّلاً جذريّاً في اقتصاد غيانا المعتمد على الزراعة والتعدين، وتضعه بقوّة على خرائط النفط العالمية، علماً أنّ أول اكتشافات النفط في الإقليم، طبقاً لبعض المصادر، يعود إلى عام 2015.
الانقلاب البريطاني
من أهمّ الأحداث التي تكشف مدى تمسّك القوى الاستعمارية بمصالحها في غيانا، تلك التي وقعت عام 1953، عندما فاز «حزب الشعب التقدمي» (PPP)، بـ18 مقعداً من أصل 24 مقعداً، في أول اقتراع عام في البلاد، شهد مشاركة 75% من الناخبين الذين «لا يتكلّمون اللغة الإنكليزية، ولا يستوفون شروط الدخل والممتلكات». ورئيس هذا الحزب الذي أصبح أول رئيس وزراء لغيانا، كان شيدي جاغان، المُتهم من الغرب بأنّه «ذو ميول ماركسية»، بحسب صحيفة «ذي غارديان» البريطانية. وفي أعقاب تلك الانتخابات، علّق رئيس الوزراء البريطاني، ونستون تشرشل، الذي كان متخوّفاً من صعود الشيوعية في القارة اللاتينية، بوقاحة على انتصار «حزب الشعب»، قائلاً: «بالتأكيد يجب أن نحصل على الدعم الأميركي، كي نبذل كلّ ما في وسعنا لكسر الأسنان الشيوعية في غيانا البريطانية». وتلفت الصحيفة البريطانية نفسها إلى أنّ ما اعتبره تشرشل «تهديداً متمثّلاً بالشيوعية الشمولية كان، في الواقع، صحوة مناهضة للاستعمار، وجدت نفسها في خطاب نضال العمّال العالميين».
في العام نفسه، أرسلت بريطانيا ثلاث سفن حربية و700 جندي إلى مستعمرتها، وعلّقت الدستور وأطاحت بالحكومة المنتخبة ديموقراطياً، بعد 133 يوماً من توليها منصبها. وتعلّق «ذي غارديان»، في تقريرها، على هذا الانقلاب، بالقول إنّه «لم يسبق للمملكة المتحدة أن أقالت حكومة منتخَبة قانونياً من منصبها بهذا الشكل العلني». على أن الانقلاب البريطاني جاء كردّ فعل على تراجع السلطة السياسة التقليدية في غيانا، والتي كانت بمثابة «كنز للنخبة الاستعمارية البيضاء». على سبيل المثال، كانت شركة «بوكرز» البريطانية العاملة في إنتاج السكر، تسيطر إلى حدّ كبير على المزارع، إلى درجة أنّه أُطلق على المستعمرة لقب «بوكرز غيانا». أمّا السلطة السياسية المنتخبة حديثاً آنذاك، فكانت تسعى إلى استعادة السلطة من القوى الاستعمارية وأدواتها، فعمدت إلى تحدّي النقابة المعترف بها من قِبَل «بوكرز»، متهمةً إيّاها بـ«الفساد والتبعية للخارج». وفي أيلول 1953، ونزولاً عند مطالب الوزراء الجدد، توقّف العمل في العديد من المزارع لمدّة 25 يوماً. كما أنّ جاغان وحزبه، طبقاً للصحيفة نفسها، رفضوا إرسال مبعوث لحضور تتويج الملكة إليزابيث الثانية، وحثّوا واشنطن «على الرأفة» بجوليوس وإيثل روزنبرغ، المتهمَين بأنّهما جاسوسان سوفياتيان في الولايات المتحدة. واللافت، أنّه في تلك الحقبة، كان جاغان يتّهم واشنطن بـ«الضغط على كاراكاس»، و«تشجيعها على الاستيلاء على ثلثي البلاد من خلال إعادة إحياء مزاعمها» حول أحقّيتها في إقليم إيسيكيبو.