فلتُسحب الأيدي من جيوب المتأهبين للنشيد الوطني(نسيم الخوري)
بقلم د. نسيم الخوري- الحوار نيوز
المقدّمة:
ينتظر اللبنانيون بعد غد الأربعاء ،أي نصف الجمعة المشؤومة ، وأياديهم على قلوبهم ،وكأنهم في ال1975 أو ال2005 ،مسكونين بهواجس انتخاب رئيس الجمهورية المجعّدة، تنتظرها الحروب والهواوين والخطف والقتل والإغتيالات على الأبواب. فما هذه الشعوب المسكونة بما لستُ ولن تدري؟
بعيداً من هنا أقول إنّه عندما يصبح لبنان كلمة وليس وطناً يمكن محوها بإنتخابات نيابية أو عدمها أو بانتخاب رئيس جمهورية أو عدمه، فعلى الشعوب السلام إذا ركبتها الطائفية وسفراء وموفدو وكتبة التقارير في العالم.
لبنان أيها اللبنانيون ليس مصرفاً ولا حاكماً لمصرف لبنان، وهو ليس حكومة أو حزباً ولا مقهى ولا مرقصاً ولا كنيسة أو جامعاً ، وهو ليس بندقية أو مدفعاً ،وهو لا النافية للجنس والشعب والوطن والشرف والتضحية والزمان بحاضره الهش بل بمستقبله وماضيه العريق.
نعم لن يُمحى لبنان ولن يُمحى اللبنانيون إذا ما انهار المصرفيون وأصحاب المصارف التي انزلقت متواطئة مع أشرس السياسيين في محو كرامات اللبنانيين وودائعهم وشلّ مستقبلهم وشرفهم فوق أرض وطنهم!
هذا هراء لبناني نادر للتاريخ.
مقاربة الموضوع
لنأخذ مثالاً بسيطاً:
يصعب تقدير الميزانية التي رصدتها المصارف اللبنانية حصريّاً لتلفزيون الMTV اللبنانية للترويج الإعلاني بأنّ حياة لبنان وبقاءه مرتبط، بالرغم من الإنهيارات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والصحية والتربوية فقط، بقطاع المصارف تحديداً الذي يساوي لبنان ولا يمكن ولا يجب ويستحيل أن ينهار.
كلّفت، خصيصاً لهذا المقال، عدداً من طلاّب الدكتوراه في علوم الإعلام والإتّصال، بدراسة سريعة طرحوا فيها سؤآلاً واحداً على عينة من 50 لبنانية ولبناني يتابعون بانتظام شاشة ال MTV طالبين منهم إن كانوا يتذكرون نص شعار الإعلان القائل بأنّ ” انهيار القطاع المصرفي بيمحي لبنان”(بالعامية). لم يتذكّر أحد منهم هذا الشعار المرتجل حرفيّاً. تذكّروا كلمتي “محو لبنان” أوّلاً باستغراب ثابت وانتقدوا الإعلان ثانياً ثمّ تذكّروا “انهيار المصارف” أخيراً بهزء وحقد وشتائم لزواج المال والسياسة.
هذا الربط بين امّحاء لبنان وانهيار المصارف في أذهان المشاهدين ويستمرّ بثه إعلاناً قويّاً يتكرر يوميّاً وكأنّه خشبة الخلاص عندما يبدأ بالسؤآل:
- “هل تدمير القطاع المصرفي هو الحل؟”
- “طبعاً لا. هو الضمانة الوحيدة لبقاء البلد، لأنّ انهيارو بيمحي لبنان”. كلمات بالعامية تهزّ السامع ب”محو لبنان” مصحوبة بصور متظاهرين ملثّمين ثائرين يديرون ظهورهم للكاميرا ويُهدّمون جدران مصرفٍ بالمطارق الثقيلة ليرتفع بعدها صوت رخيم دافئ يُعلن بالصوت العالي: “لازم نكون صف واحد. الإقتصاد ما لازم يموت” بالعامية أيضاً ،ويختتم الإعلان بالإيادي المتشابكة مرفوعة إلى فوق.
صحيح أنّ معظم اللبنانيين تهدّم مستقبلهم وهم يتشبّثون بالوطن وحاقدين على المصارف ورجال السياسة والمال، لكنّ الثابت أنّ لبنان في الأذهان ليس كلمة فوق ورقة بيضاء يسهل محوها إذا ما انهارت المصارف بعدما نهبت الودائع لمصلحة منظومة السياسيين والحزبيين المحظيين ورجال الأعمال والمصرفيين وحاكم مصرف لبنان.
نموذج عن فلسفة الإقناع لدى المعلن المتذاكي الذي يزوّج السياسيين بالمصرفيين، فتُصبح المصارف رحماً لوطن دوّار في الأرض كما لبنان، لكن الصورة والحقائق تنقلب على ظهرها بين المسؤولين ومعظم اللبنانيين الذين تبخرت ودائعهم وجنى أعمارهم بعدما محتها المصارف ومحت معها أحلامهم واندثرت عائلاتهم نحو أرصفة الفقر والجوع والقمع ، عبر عواصم الأرض وأرصفتها في العالم ،الأمر الذي يلمّح بسيوف العقوبات التي يمطّ الدبلوماسيون بشهرها. والآتي قوي وأعظم من قوي.
تدهورت السياسات النقدية أخيراً، وسقط لبنان في المنطقة الرمادية وبات خارج سياج النظام المصرفي العالمي. وهكذا وجد اللبنانيون أنفسهم خارج مثلّث برمودا مقفلاً بأضلاعه وزواياه الثلاث: أعني المصرف المركزي وزعماء الطوائف وأزلامهم من تجار ومحاسيب وأقارب، والصرافين والمصارف بفروعها التي لا حدود لها يتحلّق أصحابها ومجالس أداراتها. وتحوّلت السياسات النقدية دجاجاً يبيض ويُبيّض أرباح المصارف ونهبها، على حساب المالية العامة غير المفهومة وقطاعات الإقتصاد اللبناني المشلول. رُفعت معدلات الفوائد الجارية على سندات الخزينة إلى مستويات غير مسبوقة، مع العلم أنّها تشكل عادةً العمود الفقري لبنية هيكلية الفوائد في السوق المالية ، خاصة بعد الحروب والكوارث إذ تُخفّض الفائدة إلى المستويات الدنيا تشجيعاً للتوظيفات المنتجة. بالمُقابل رفع مصرف لبنان الفائدة ، إثر الدمار الشامل الذي أحدثته الحروب الأهلية إلى ال 18%، ما ضخّم الأرباح المصرفية واستقطبت الثروات والتوظيفات من الخارج لحساب الخزينة.
لاح تفكيك مثلث برمودا اللبناني عندما أصدر الإنتربول مذكرة توقيف موحياً بمحو رياض سلامة أوّلاً لا لبنان ،على خلفية مذكرة فرنسية بحقه بعدما أصدر المدعي العام الفرنسي المختص بالقضايا المالية مذكرة باعتقاله بتهم فساد وتزوير وتأليف عصابة لتبييض الأموال والاختلاس ، مع أنّ سلامة بقي ينفي ذلك مكابراً بعد تغيّبه عن جلسة قضائية في باريس. ثم تبعه القضاء الألماني الثلاثاء 16 الفائت بمذكرة اعتقال بحق سلامة، وهناك إشارات مماثلة قريباً من اللوكسمبورغ وكأنّ الحبل على الجرّار. وصودف أن كنت في اليوم نفسه في عداد ” الهيئة العليا للإشراف على الإنتخابات البرلمانية في لبنان” في لقاء القاضي بسام مولوي وزير الداخلية والبلديات لتسليمه التقرير النهائي لانتخابات 2022 البرلمانية، وأسرّ الرجل بأنّه سيُنفذ مذكرة الإنتربول بتوقيف سلامة فور قرار القضاء الأخذ بها. ونحن بالإنتظار!
تتوسّع الشقوق فوق الرؤوس الكبيرة، كما يُشاع، مصحوبةً بالنصائح العلنية تُطالب رياض سلامة بالإستقالة الفورية، بعدما كان مطمئناً إلى كرسيه طويلاً في حاكمية مصرف لبنان المُصان والمحمي بشراكاتٍ مع المنظومة الأضخم. الجميع كان بانتظار برامج الإصلاحات وإقرار “الكابيتال كونترول” الأعرج وتعرية المصارف التي ما زالت تهرّب الأموال نحو الخارج حتّى اليوم، كما أعلن الياس أبو صعب نائب رئيس مجلس النواب أوّل من أمس سائلاً بغضب:
“ماذا ينتظر رياض سلامة بعد؟
استقل.
أخاطبك مباشرةً عبر الهواء بأنني لو كنت مكانك لاستقلت فوراً لأنّ بقاءك يعني سقوط المصارف ولن أقول أكثر من ذلك إلى أين نحن ذاهبون!”
قطعاً إلى الخراب فليكن الخراب المنتظر!
من أين وكيف نبت أو استُنبت جهاد أزعور مرشّحاً لرئاسة الجمهورية المجعّدة بوجه سليمان فرنجية الذي كادت الكلمات تختنق في محيّاه أمس؟
قد يذكّرنا المشهد بالشاعر الأميركي ت.س. إيليوت في كتابه بعنوان: “The wast land” أي ” الأرض اليباب” أو الخراب، لكنّ لبنان لن يُمحى فقد اعتاد جسده وشعبه النظيف على الخرائب.
لبنان ليس كلمة تُلغيها ممحاة بطرف قلم، لكنه عسكري أخضر ومطلوب وما زال أكثر من مناسب لسحب الأيدي الكثيرة من جيوب لبنان واللبنانيين المتأهّبين للنشيد الوطني اللبناني، أي كلّنا للوطن نملأ عين الزمان .