فصول “الزهق” من أمراض الحكام والرؤساء(نسيم الخوري)
بقلم الدكتور نسيم الخوري – الحوار نيوز
يتضرّع اللبنانيون ويتمتون:”وقُل جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً”.
فعلاً أكلهم الزهق والملل بانتظار تجديد الطبقة الحاكمة الرسوبية وتغيير رتابة الكراسي التي تُجدّد كما عقود الإيجار. تاريخ أفرغوه بالتأجيل والتمديد في الإنتخابات البرلمانية والرئاسية وتكليف رؤساء الحكومات وتأليفها لتتسطّح الوجوه وتتكرّر في الحرب والسلم وفي السياسة والإقتصاد والثقافة والإعلام…إلخ.باختصار، يخضع الناس ل”ديكتاتورييهم بانتظار ولادة التغيير من رحم ديمقراطيتهم البائدة.
نعم التغيير هو رحم الديمقراطية النظيفة. فلو استمرّ الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت (1882-1945 ) بالتجديد لنفسه، مثلاً، بما يتجاوز ال 4 انتخابات رئاسية المتتالية ( 1933- 1945) لاستحال انتهاء حكمه لولا وفاته. وحتى لا تتكرّر تجربة التصاقه بكرسي الحكم، مع أنّه كان شخصية محورية للقرن العشرين، فقد جعلوا الولاية الرئاسية في أميركا من بعده ، مرّتين فقط، وعدّلوا القوانين وقلّصوا صلاحيات الرئيس كي لا تقع أميركا مجدداً بقبضة رئيس واحد.
نعم التغييرهاجس الناس حتّى ولو كان ونستون تشرشل ( 1874-1965) قد دمغ التاريخ البريطاني والعالم بتأثيره. بدأ بتحوّله في ال1904 من حزب المحافظين غير الملتزم بالعدالة إلى الليبرالي، وساعد في قيادة استراتيجيات الحلفاء مع أميركا والإتحاد السوفياتي وهزيمة قوى المحور وصياغة السلام خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها. تولى رئاسة الوزراء (1940- 1945) والمُفاجيء كان فشل حكومته في انتخابات 1945 بالرغم من انتصاره الأسطوري في الحرب العالمية. لماذا؟ لأنّ الناخبين زهقوه ونسوا تأثيره وقدرته ودمغته القوية العظمى مع عودته رئيساً للوزراء من 1951 حتى تقاعده عام 1955 بعدما صدمته أخبار ملل البريطانيين منه وبسبب مرضه وتوقهم الهائل للتغيير بعد أثقال الحروب والقلق معتبرين ببساطة أن الحاكم “عندما يشيخ يخافه الناس بألاّ يعطي أكثر مما أعطى”.
نعم التغيير رحم الديمقراطية، وإلاّ لما كان الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان (1926- 2020) استمرّ في شهية السلطة من الإليزيه إلى ما تجاوز التفكير بكوارث الأنكماش الإقتصادي على عهده( 1974 – 1981) خصوصاً بعد أزمة الطاقة في ال1973 ليصير مضرب المثل وتعليقات الإعلام الفرنسي بأنه “رجل مسكون بالسلطة ولشدة حبّه للرئاسة قد يبقى في القصر إلى الأبد”، ولهذا أسقطه تحالف المعارضة من اليسار الموحد بقيادة فرنسوا ميتران مع اليمين الديغولي بقيادة جاك شيراك.
التغيير هو تجديد الأمل الطبيعي بين رئيس وآخر، وإلاّ لما انتُخب جاك شيراك (2019-1932) رئيساً للجمهورية الفرنسية أم الديمقراطيات وينبوعها المتفجر بالحرية والأخوة والمساواة، بعدما شغل مناصب متعددة أهمها رئاسته للحكومة بين 1974 و1976 ثمّ بين 1986 و1988. اللافت أنّ من أهمّ الأسباب التي أوصلته الى الحكم كانت ملل الفرنسيين بل “زهقهم” المعلن من الحكم البطيء والطويل لسلفه الرئيس فرنسوا ميتران الإشتراكي (1916- 1996) الذي دام 14 عاماً من 1981 إلى 1995 ليحتلّ قلق الفرنسيين وطلبهم اليومي للتغيير. وهكذا، وبعد فوز اليمين الكاسح في انتخابات 1986 البرلمانية، وللمفارقة، اختار ميتران خصمه شيراك في ال 1995 ليكون رئيساً وكان أوّل ما فعله الأخير بعد دخوله الإليزيه، تخفيض الولاية الرئاسية إلى 5 سنوات بدلاً من 7، وبشرطٍ ألاّ يُسمح لرئيس فرنسا، بعد تجربة ميتران، بالتجديد أكثر من مرّة واحدة.
هل كنا شهدنا سقوط الإتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية، ومثلهما كيم إيل سونغ وذريته في كوريا الشمالية لو لم يكن الحكم مدى الحياة؟
تكر الأمثلة من فرانكو( 1892-1975 ) الذي حكم اسبانيا من 1939 إلى 1975، مسمّياً نفسه ب”الكوديو” وتعني الإستبداد والإستعباد وعبادة الذات والمخلص الأوحد، إلى انطوني سالازار ديكتاتور البرتغال بين 1932-1968 إلى ما يتجاوز الكتابة.
المشير عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب( 1934-2018) الرئيس الخامس للسودان، رجل عسكري ومحايد طلب منه تولّى السلطة(6/4/1985- 6/4/1986)، إثر انتفاضة نيسان 1985 بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة. قبل متردّداً بالتنسيق مع قادة الإنتفاضة بشرط تركه الكرسي في يومٍ محدد وساعة محددة عند قيام حكومة منتخبة جديدة .وهكذا كان إذ سلّمها للصادق المهدي. صار الرجل مثالاً يعتبر السوادانيون “منزله وكأنه المزار”.
هل ننسى نانداسينا غوتابايا راجاباكسا رئيس سيريلانكا أخيراً الذي فر في 9 تموز/يوليو 2022 من قصره في كولومبو الى جزر المالديف بعدما احتله الملايين من شعبه.وكانت الدولة الوحيدة التي قبلت استقباله هو وزوجته واثنين من حراسه؟
لم أكتب عن لبنان، لكن ما كتب ما كان، لولا “الزهق” العارم من سياسيي لبنان. يرفعون شعار “لو دامت لغيرك لما آلت إليك”، لكن التغيير لدى الغير والمؤقت دائم عبر الأبناء والأحفاد والأصهار والأقارب بما يمحو الديمقراطية والتغيير.