فصاحة لسان الجزائر.. وخرسنة في لغة العرب
من دون أن يعلم وحّد بوتفليقة الجزائريين بتنوّعاتهم السياسية والحزبية والعقائدية والفكرية. هم يتقدّمون من هوّة 18 نيسان تاريخ إستراحة حكم الرجل المقعد المصادف مع زهو فصل الربيع وزهوره. كتبنا الهوّة لأنّ كلمة الربيع صارت مرذولة في أذن العرب، ولأنّ العناد المتكلّس في سلوك من أدمنوا السلطات والحكم والفساد صار مرعباً، ولأنّ الفراغ مرّ سرعان يخطو بالشعوب الرافضة المتظاهرة إلى عتبة الفوضى التي تقود غالباً إلى الدم، لأنّ الأصابع الخارجية تقوى مع تشقّقات الداخل وهو ما إعتدناه في دنيا العرب وخبرناه أسياداً في لبنان.
عندما كانت فرنسا في لبنان، كان الطلبة يغرّمون في المدارس عند التلفّظ باللغة العربية فيقاصون بحمل قطعة خشبية إسمها السينيال Le signal بمعنى الإشارة أو المؤشّر إلى الذين لا يرغبون ولا يتعلّمون لغة الدولة المستعمرة.
الآن تذكّرت وأيقنت ويدرك المشرق والمستشرقون والعالم معي قيمة التمسّك باللغة والهوية لا بمعانيها المتشاوفة ،بل بحثاً عن كرسي من القش ربّما تفسح مقعداً للعرب في رحاب المستقبل. ومع أنّنا كنّا لبنانيين وعرباً مشرقيين في عديد أساتذة الجامعات الذين جابوا الجزائر وشاركوا في إنجاح ورش تعريب المناهج والبرامج هناك والمساعدة في تنقية الألسنة الجزائرية من الرطانة واللحن والعاميات واللهجات في إستعمال اللغة العربيّة وتخليصها ممّا أصابها خلال مئة عام من الإحتلال الفرنسي، فإنّ الحصاد ظاهر فصاحةً بادية في لسان الجزائر عندما تبلبلت ألسن العرب .
سأخرج من الحدث السياسي إلى حيّزٍ آخر إيجابي على علاقة بإشراقة الفصاحة واللغة العربيّة والعروبة في لسان الجزائريين اليوم بما يشدّ المتابعين. إشراقة لغوية تدفن الكثير من الأحكام والمفاهيم الخاطئة التي كانت تظهر بعض الدول لساناً سحبت منه شرايين اللغة العربيّة السليمة إبّان الإستعمار الفرنسي. ومع أنّ بعضنا قد نسي أو صار يخجل من إستعماله مصطلح الإستعمار وتداعياته وإمتداداته مع شيوع العولمة بما جعله مصطلحاً بائداً أو يثير الوجا للأسف، إلاّ أنّ اللسان الفصيح يظهر بقوة وتميّز في التعبير عبر الشاشات والإذاعات خلافاً لظاهرةٍ من إنزياحات العديد من ألسنة العرب نحو العاميات وفيهم لبنان.
وهنا قصّة جميلة معترضة:
نشرت وزارة التعليم الفرنسية (7/1/2000) مذكرةً تحدّد فيها كتابة العربيّة بالأحرف اللاتينية شرطاً للتقدم من امتحانات شهادة البكالوريا بالنسبة للطلاب العرب في فرنسا، وبأن تكتب المسابقات باللهجة الأم في الإجابة، كما تشمل قراءة نص عربي والتعليق عليه بالأحرف اللاتينية. استجابت المذكرة آنذاك لدعوة "دومينيك كوبيه" Dominique Coubet أستاذة العربية المحكية في المعهد الوطني للغات والحضارة الشرقية التي رأت بأن قراءة نص بالعربية الفصحى يعني استبعاد 75 بالمئة من المرشحين العرب بحجة أنهم لا يعرفون لغةً لم تنقلها إليهم عائلاتهم بالطريقة الكتابية. كانت القضية تنطوي على بُعد سياسي منذ الاعتراف بالعربية المحكية لغة أقليات مناطقية في الميثاق الأوروبي للغات المحلية. وكان هذا قمة التدهور اللاحق باللغة العربيّة، ليس في فرنسا بل في الشرق الأوسط أيضاً.كما رأت بريجيت طحّان من أكاديمية باريس للغة العربية.
تأخذني تلك الفصاحة من ناحية المغرب العربي إلى الدعوات إلى الكتابة العربية بالحرف اللاتيني أو "ليتنة" Latinisation الحرف العربي، وذلك بجعل الحركات الخاصة باللغة العربية أحرفاً عادية تدخل جسم اللغة المكتوبة. وتعيدنا هذه إلى مصطفى كمال (1881-1938) مؤسِّس الدولة التركية وأول رئيس لها (1923) الذي لُقب بأتاتورك أي أب الأتراك، إذ كان أوّل من استعمل اللاتينية في هذا الشرق عوضاً عن التركية. وجاء مشروعه باباً نفذ منه الكثيرون من الأوروبيين والعرب لتقديم الأفكار والمحاولات التي كانت تصبّ في منحى واحد هو تعزيز اللغة الأجنبية على حساب اللغة الأم، بالاضافة الى جهود ملتبسة ضرورية حول إصلاح الكتابة.
وإذا كان هذا المشروع قد التصق على المستوى العربي المستغرب ب: عبد العزيز فهمي (1870-1950) سياسي مصري وقانوني عُين وزيراً للعدل (1925)، وكان للمفارقة، عضواً لمجمع اللغة العربية (1940)، عندما نشر كتابه الممهور بإسمه بعنوان: "الحروف اللاتينية لكتابة العربية" داعياً فيه إلى استبدال الحروف العربيّة بالحروف اللاتينيّة ، فإن غيره من الغربيين كانوا قد سبقوه إلى هذه الدعوة، وفي رأسهم المستشرق الإلماني ولهلم سبيتا welhelm Spitta( 1853-1883) المتخصّص باللغات الشرقية، وكان يشغل مديراً لدار الكتب المصرية عندما أصدر كتابه في لايبزغ في إلمانيا بعنوان:" قواعد العربيّة العاميّة في مصر" الذي إعتبر هزّةً في القول بصعوبة اللغة العربيّة وتعقيداتها وقد "هجرها العرب وراحوا يستعملون العاميّة في حياتهم اليومية وهو الحلّ الوحيد لتخليص العربيّة من جمودها وتقوقعها".
أضيف إليه كارل فولرس في كتابه" اللهجة المحكية في مصر"(1890)، والقاضي الإنكليزي سلدن ولمور في كتابه:" العربيّة المحكية في مصر" (1901)، وفيلوت وباول في كتابهما:"المقتضب في عربيّة مصر"(1936)، والمهندس الإنكليزي وليم ويلكوكس William Wilcoks الذي إعتبر أنّ " المدنيّة الحديثة تفرض لغةً مرنة تستجيب لحاجات البحث العلمي والكشوفات والإختراعات وهي أمور لا تتوفّر في العربيّة الفصحى ممّا ضاعف الأميّة في الوطن العربي". الغرابة أنّ دعوة هذا المهندس جاءت في محاضرة ألقاها في نادي الأزبكيّة بالقاهرة بعنوان" لِمَ لا توجد قوّة الإختراع لدى المصريين الآن؟" ونشرت في مجلّة الأزهر( العدد 1، السنة 1893، ص:1-10) وكان وليم هذا رئيس تحريرها وقد طالب حرفياً ب" نبذ هذه اللغة الصعبة الجامدة، وإتّخاذ العامية أداةً للتعبير إقتداءً بالإنكليز الذين افادوا كثيراً منذ هجرتهم اللاتينية التي كانت لغة العلم والكتابة.
*نسيم الخوري ( أستاذ مشرف في المعهد العالي للدكتوراه – الجامعة اللبنانية)