رأي

المحاصصة والفرص الضائعة في لبنان: كفاءات تغادر ووطن يفرّغ من خبراته (أسامة مشيمش)

 

بقلم د.أسامة توفيق مشيمش – الحوارنيوز

 

منذ إعلان الجمهورية اللبنانية، مروراً باتفاق الطائف، وصولاً إلى مرحلة ما بعد الحرب، ظل نظام تقاسم السلطة قائماً على قاعدة المحاصصة الطائفية، التي وإن كانت تُسوَّق كصيغة لضمان التوازن بين مكوّنات المجتمع، إلا أنها تحوّلت تدريجياً إلى أداة لاقتسام النفوذ والمغانم بين القوى السياسية.

وبدل أن يكون النظام التعددي في لبنان مصدر غنى وتنوّع، أصبح مادة للاحتكار السياسي وتوزيع الوظائف العامة والمناصب على أسس طائفية وحزبية، لا على أساس الكفاءة والجدارة. هذه البنية الهشة، التي تطبع مؤسسات الدولة، خلقت جواً من الإحباط لدى شريحة واسعة من الشباب اللبناني، لا سيما أصحاب التخصصات والخبرات العلمية والمهنية.

هجرة العقول… نزيف مستمر

في بلد يعاني من شلل اقتصادي وأزمة مالية غير مسبوقة، بات التمسك بالكفاءات الوطنية ضرورة وجودية، لا ترفاً. ومع ذلك، تستمر موجات هجرة الأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات والباحثين والعاملين في القطاع العام والخاص، بعدما سُدّت في وجههم سبل التقدّم، أو حتى العيش الكريم.

فمنذ سنوات، لم تعد الهجرة خياراً بحثاً عن الأفضل، بل ضرورة يفرضها واقع مؤلم: دولة لا تعترف إلا بالمحسوبية، ومؤسسات يُعيّن فيها المسؤول لا بناءً على خبرته، بل بحسب “الغطاء” الذي يقف خلفه، أو الانتماء السياسي والطائفي الذي ينتمي إليه.

المحاصصة.. من ميثاق إلى عبء

في الشكل، قد يبدو النظام الطائفي اللبناني محاولة لحماية التوازن الوطني، إلا أن التطبيق العملي أظهر أنه تحوّل إلى عائق أمام بناء مؤسسات دولة حديثة. الوزارات تُقسَّم بحسب انتماء الطوائف، والمناصب الإدارية تُمنَح كمكافآت انتخابية أو سياسية. هذا الواقع أنتج إدارات عامة عاجزة عن اتخاذ قرارات فاعلة أو تطوير عملها، لأنها تخضع لمبدأ “الفيتو” الطائفي، وليس لمعايير الأداء والمؤسساتية.

وحتى داخل الحزب أو التيار السياسي الواحد، بات الولاء هو الفيصل، لا الخبرة أو الإنجاز. يتقدّم من هو أكثر “ارتباطاً” بالزعيم، ويتراجع من يمتلك الرؤية والمبادرة دون “غطاء” سياسي.

الشباب اللبناني بين الغربة والخذلان

في ظل هذا المشهد، لا عجب أن يفكّر خريجو الجامعات منذ لحظة تخرجهم في كيفية مغادرة البلد، بدل البحث عن فرصة فيه. تتكرر قصص المغادرين: طبيب متخصص يعمل في مستشفى أوروبي بعد أن حُرم من فرصة الترقية في بلده، مهندس لامع يجد تقديراً في الخليج بعد أن اصطدمت طموحاته ببيروقراطية متخلفة، أستاذ جامعي يهاجر بعد أن أصبح راتبه لا يكفي بدل نقل.

هذا ليس فقط نزيفاً للطاقات، بل خيانة صامتة لحق الوطن في أبنائه، ولحق أبنائه في وطن عادل.

إلى أين؟

لبنان لا تنقصه العقول، بل البيئة التي تحترم العقول. لا تنقصه الكفاءات، بل الآليات التي تستثمرها في أماكنها الصحيحة. المطلوب اليوم ليس انقلاباً على الصيغة اللبنانية، بل إصلاح عميق في آليات المحاصصة وتوزيع الوظائف والمناصب، بما يضمن تكافؤ الفرص، ويعيد الاعتبار إلى الجدارة كمبدأ أساسي في إدارة الدولة.

المطلوب أن نعيد الإيمان بفكرة الدولة لا الزعامة، بالمؤسسات لا المكاتب الحزبية، بالمواطنة لا الانتماء الطائفي. عندها فقط، قد تبدأ عملية الإصلاح.  

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى