المحامي د. أنطونيو أبو كسم* – الحوارنيوز خاص
كلّ جريمة ترتكب في لبنان وتؤدّي إلى سقوط ضحايا، تُعيد النقاش والانقسام حول العدالة في لبنان وفعاليّتها. إنّ الصراع السياسي الحاصل اليوم حول العدالة بخصوص جريمة المرفأ ليس إلاّ نتيجة سلوكٍ شاذٍّ تطوَّرَ مع الأيام وانتهجه القادة السياسيون والأمنيوّن في لبنان.
عودةً فقط لحقبة العدالة في ظلّ الجمهورية الثانية، التي شهدت عقداً اجتماعياً جديداً يقوم على العدالة بالتراضي، عدالة انتقائية انتقامية استنسابيّة، عدالة يُكسَرُ سيفها بحجّة ضمان السِّلم الأهليّ. سلطتان دستوريتان تتدخلان في القضاء وترسمان خارطة طريقه. سلطة تشريعيّة تسنّ القوانين لتشرّع الإفلات من العقاب، بدءاً من قانون العفو (الصادر في العام 1991) عن المجرمين الذين أَزهَقوا أرواح حوالي ربع مليون لبنانيّ خلال الحرب الأهليّة، وصولاً إلى إعفاءات سياسيّة خاصّة لتعيد من جديد لاعبين على الحلبة ولتعيد مقاتلين قدامى برتبة إرهابيين إلى مسرح الشرّ. وسلطة إجرائية تُمعِنُ بالتدخّل السافر في الشؤون القضائية البحتة وبالتشكيلات القضائية، وأحزاب السلطة هي التي تختار وزراء لحقيبة العدل المصنّفة تحت خانة الوزارات الخدماتية، في حين أنّ العدل يقوم على الاستقلالية، وأنّ يحكم باسم الشعب اللبناني وليس باسم الحزب أو رئيسه أو أمينه العام أو باسم المستشار.
هذا السلوك المتفاقم أدّى إلى فقدان العدد اليسير من القضاة هويّتهم القضائية، فبات الطموح ينحو نحو تبوّء وظائف إدارية عليا خدماتية، أو تقديم خدمات استشارية للوزراء ليشارك أعمال السلطة التنفيذية، وصولاً إلى طموح الوزارة وخاصّة إذا كانت الحقيبة خدماتية، وحقيبة العدل قد تصنّفت لتصبح من ضمنها.
هذا النزوح القضائي مقلقٌ للغاية، ويؤشّر إلى فقدان القضاة الحسّ بمسؤولية القوس ورسالة إحقاق الحقّ. إنّ فقدان نشوة العنفوان القضائي على حساب الشعور بنشوة السلطة أو المال ولو بشكلٍ قانونيّ، يطرح إشكاليّة ماهية المهام القضائية، أهي وظيفة أم رسالة؟ أهي عمليّة تنافس للوصول إلى السلطة أم هي رسالة قائمة على التجرّد؟ إنّ سعي القاضي لترك رسالته للتفتيش عن مهنة تكسبه المال، بسبب إحباطه من الوضع الاقتصادي، يطرح إشكالية عدم إيمان القاضي برسالته.
عواملَ تَظهَّرت جلياً خلال ملاحقة المجرمين في قضايا الاغتيالات وقضايا الفساد الكبرى واختلاس المال العام. فكانت العدالة في لبنان عرضة للعرقلة وعرضة للتدخّل الدولي، الذي تمظهر في التحقيق والاجراءات والمحاكمات في قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. هذا التدخّل شجّع القضاء اللبناني على عدم إحقاق العدالة في الجرائم الكبرى، حيث لا يزال مجهولاً “قضائياً” العدد الأكبر من المجرمين المتورطين باغتيالات سياسية.
أمّا بخصوص جريمة المرفأ، فإنه وكأنّ نظرة السياسيين لم تتغيّر تجاه القضاء الجنائي، الذي اعتادوا عليه يراعي الظروف السياسية والخصوصيات الاستخباراتية، الطائفية، الحزبية والميليشياويّة. إنّ هذه النظرة إلى المحاكمات الجنائية الوطنية، أفقدتها مصداقيتها، حيث يُرشَقُ القضاة بسهام السياسة والدين، ظنًّا من المسؤولين الزمنيين والروحيّين أنّه لا يوجد قاضٍ مستقلّ. أضف إلى ذلك التراشق الإعلامي ما بين القضاة والسياسيين، ومسألة انتهاك موجب التحفظ وسريّة التحقيق، حيث أنّ الإعلام المرئي والصحافة المكتوبة أصدق إنباءً من الكتب القضائية. من المسؤول عن تسريب وثائق التحقيق الجنائي ونشرها؟
بالرغم من شموليّة مبدأ عدم الاعتداد بالحصانات الرسمية في الجرائم الفظيعة وفقاً للقانون الدولي الجنائي المعاصر (على سبيل المثال المادة 27 من نظام روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدوليّة)، – وإن كان هذا المبدأ غير سارٍ في النظام القانوني اللبناني -، لم يتجرّأ ولم يتقدّم أيّ مسؤول رسميّ يتمتّع بالحصانة الوظيفية من التنازل عنها إسهاماً منه بالوصول إلى الحقيقة واحتراماً لروح الشهداء. والسبب الأبرز، أنّه لم تشهد الجمهورية الثانية محاكمة جنائية فعليّة في قضيّة كبرى لها طابع سياسيّ، وليس كلّ استنابة قضائية تكون حكماً قابلة للتنفيذ.
هذا النوع المتطوّر لحصانة السياسيين “الدّينية”، حيث يتطفّل رجال الدين تحت راية العدالة والحقيقة بالتدخل في شؤون القضاء – وكأنّ قضاءهم الديني بعيد عن التدخلات ولا يشوبه الفساد -، جعلت من المجني عليهم أن يُؤمنوا بنظرية “القاضي الأمير”. إنّ اعتماد نظرية القائد الأمير في الحكم في البلاد العربية، قضت على مفهوم الديمقراطية، حيث يتمّ إقناع الشعوب أنّه لولا القائد الأمير لكانوا قُتلوا أو اغتصبوا أو تمّ تجويعهم. إنّ الربيع العربي، لم يستطع تغيير حكم القائد الأمير، حيث أنّ قادة الثورة يقرؤون في كتاب مكيافيلي.
فأسوة بالقائد الأمير، إنّ القاضي الأمير يوحي للشعب أنّه يمسك وحده بالحقيقة : سلوك أميريّ يؤمّن غطاءً لمصداقية نظرية الحقيقة التي سيقدّمها. فسلوك القاضي الأمير، يذكّرني بأسطورة “الحيوانات المريضة بالطاعون” للكاتب الفرنسي جان دو لافونتين، حيث تمّ اتهام الحمار أنّه هو السبب بتفشي مرض الطاعون ما بين الحيوانات في الغابة بسبب أكله لحشيش الدير، فيما تركت الحيوانات المفترسة حرّة تلك التي تبحث كلّ يوم عن فريسة، دونما حسيب أو رقيب.
من الواضح أنّ هناك تلاقي مصالح بين جهات دوليّة وأخرى وطنيّة على عدم الغوص بتحقيقات المرفأ، وحتّى لا يحبذون اتهام لا الأسد ولا الأفعى ولا الحمار، لا آكل اللحوم ولا آكل القوارض ولا آكل الحشيش (وما أكثرهم).
إنّ الدرس من قصّة “رؤوس قد أينعت وحان قطافها” مريرٌ جداً، يقتضي الاستخلاص منه. انتهت المحكمة الخاصة بلبنان بعد تحقيقات دولية ومحاكمات دامت ستة عشر عاماً إلى الحكم على رأسٍ واحدٍ لم نعرف إذا كان يانعاً كون محاكمته كانت غيابية حيث تمّ تبرئة رفاقه. إنّ أحد أسباب عدم المقدرة على قطف الرؤوس اليانعة، غياب إرادة القوى الأمنية بعملية القطاف، حيث لم يتسنّى للمحكمة الدولية إلا الشروع بمحاكمة أشباح بناءً على أدلّة ظرفيّة فقط، لعلّة عدم توقيف أيّ متّهم.
المشهد يتكرّر اليوم، إنّ القوى الأمنية تنأى بنفسها عن تبليغ المتهمين في قضية المرفأ أو التورّط بتنفيذ مذكرات التوقيف بحقّهم، كما تصرّفت مع أوامر المحكمة الدولية. هذا السيناريو المتكرّر يؤشّر للمجني عليهم-أهالي ضحايا انفجار المرفأ أنّ مشروع الذهاب إلى العدالة الدولية غير مضمون، ونتائج الاجراءات القضائية ستكون محبطة في غياب التعاون الجدّي والفعّال للقوى الأمنيّة، التي أثبتت جدارتها في عدّة محطات في حال كان لديها الإرادة ! كذلك الأمر بالنسبة لبعض الدول النافذة التي لمّ تزوّد التحقيق اللبناني بصور الأقمار الاصطناعية لأسباب يمكن استنتاجها…وتشكل قرينة بحدّ ذاتها.
إنّ العدالة الجنائية الدولية في منطقة الشرق الأوسط إلى انحسار مقصود وصولاً إلى الاندحار. إنّ عدداً من دول مجلس الأمن يرفض ملاحقة مسؤولين إسرائيليين أمام المحكمة الجنائية الدولية، يقابله رفض لإحالة الحالة في سوريا لهذه المحكمة. فإنّه يتمّ الاستغناء عن المحاكم الدولية حيث يلاحق عدد من المسؤولين عن انتهاكات القانون الدولي الإنساني أمام المحاكم الألمانية على سبيل المثال لا الحصر. ولم يحاكم بعد أفراد داعش أمام أيّ محكمة.
من الأسئلة التي يجب الإجابة عليها: من كانت لديه النيّة الجرميّة لتفجير نيترات الأمونيوم؟ ومن هي الجهة أو الجهات المستفيدة من انفجار المرفأ؟ ومن لديه المصلحة من التغطية على الحقيقة؟ أمّا الخطر الداهم والمستمرّ، فيتمثّل بنيترات الفساد المخزّن في رؤوس أغلبيّة المسؤولين الزمنييّن والروحيين، الذين يعرقلون سير العالة، حيث نسبة قلّة الكرامة مرتفعة ممّا يجعل المادة قابلة للانفجار لتدمير ما تبقّى من السيادة.
عسى ألّا يتحوّل غروب العدالة في لبنان إلى كسوفٍ وتقفل المحاكم مرّة أخرى ليس بسبب إضراب نقابة المحامين بل بسبب فقدان ثقة المواطن وتفشي ثقافة استيفاء الحقّ بالذات.
*قانوني لبناني – دولي
**بالتزامن مع الزملية ليبانون فايلز
زر الذهاب إلى الأعلى