عن زيارة لوطن في البال في عيون مهاجرة (2) :حديث عن الإعتياد عندما تعيش الغربتين* (هدى سويد)
هدى سويد ـ إيطاليا-الحوار نيوز
.. إلاّ أنّه يبقى القول بأن البقاء في الوطن أحيانا يكون لا مرئيا ، وإن كان رفض العيش والبقاء فيه مؤلما ، سواء كانت الإقامة تلقائية ، تصالحيّة أو إجباريّة.
يتحوّل الأمر إلى شبه ما بين المُغترب والمُقيم ،
وإن كانت الغربة شيء والإقامة شيء آخر.
جئت إلى بلدي متخيلة أن الأنين لا يرحم أحدا ، وأن التعاضد يجمع ما يُحدثه الغلاء بل انهيار الكيان بكل مؤسساته ،
لكن البلد بقي على ما كان دوما عليه يعيش بفضل اجتهادات ونشاطات وتجارات فردية ، لذا يصبح المواطن وتصبح المواطنية عائمة في المجهول ،
لا يمكن تخيل وطن من دون خدمات ، والتي اذا انتفت لا يصبح الوطن وطنا ولا المواطن مواطنا ، هكذا يصبح الوطن عبارة عن مكان يجمع أشخاصا وأناسا لا أكثر ولا أقل من أزمة مأساة .
لا يُمكن تخيّل وطن لا يقدم لمواطنيه الضروريات من خدمات منذ سنين ، لا شبكة مياه، كهرباء ، إتصالات ومواصلات ، بينما تستضيف نسبة من أبنائه عاملات يخدمن في بيوتهم ، وعمالا قدموا من بلدان فقيرة تنعم بلادهم إلى حد ما بشيء من مواصفات وطن .
لا أود المُقاربة ولكن في بلد ينعم بدستور وقانون لا يُمكن قطع المياه تحديدا أو التيار الكهربائي إلاّ إذا المواطن لم يقم بواجباته بدفع الفواتير المستحقة عليه ،وإن كان الحل السهل هذا مُتعذرا .
لا يُمكن تخيل وطن يختفي الدواء في مستشفياته وصيدلياته ، لنجده في الدكاكين ، نعم في دكاكينه بفضل رحمة السماسرة من تجار وسياسيين!
وطن يجمع سياسيوه أبناءه في مركب الغرق دون أن يرشقهم رذاذ الغرق والموت، يبقون هكذا عائمين بأحلام سرقاتهم وما سيجنونه في الغد ،
يبقون بلا خجل لا يستقيل ولا يغرق منهم أحد.
***
البلد مُقفل وأقفل من زمن ، لولا المساعدات التي يستفيد منها من له نصيب ،
يغدق القادرون والمتعبون القادمون من الغربة مالهم ، ويخيل للسماسرة أن البد بخير لأن المطاعم، السوبرماركت ، الملاهي ، الطرب والمطربون هم بخير كما المُساعدات بخير،
وإن أنعش قلبي ورددت أكثر من مرة أن “البلد بخير” كلما زرت معرضا فنيا ، تصفحت كتابا جديدا، استمعت إلى ندوة أو زرت مكانا جميلا .
البلد مقفل وأقفل من زمن ، لولا ما يستقطبه من مساعدات، وقد يفهم المرء أن المساعدات ضرورية لبلد منكوب ببركان، زلزال وفيضان أوحرب واحتلال !
بينما في لبنان لماذا ؟ وفي أي مشكلة من هذا المعجم مشكلته ؟
ولا أود التطرق هاهنا في معترك التحاليل، كأن يُقال بأن السياسيين نهبوه، ولا يمكن الإفراج عنه حاليا بسبب الأزمات الدولية والمحيطة والمقيمة فيه ؟ وبانتظار القرارات بحق من نهبه ؟ ووو
تُقبل وتُشترى الهبات والمساعدات من الخارج إذلالا ؟
لا لدفع البلد نحو تحسين الواقع الاجتماعي ودفع العجلة الاقتصادية بل تُقبل لإبقاء البلد عمّا كان وما كان عليه وكفى.
***
الوطن شيء والغربة شيء آخر .
لكنهما صنوان متشابهان عندما تشعر بالغربة في وطنك الذي تعود منه جذورك ،
وفي الغربة تفتقد جذورك وإن طال عيشك سنين .
صحيح أنّ زيارة البلد تعني زيارة ناس ومكان ، وما تتوأم بين الجلد والذاكرة من أحداث وألوان السنين ،
كما الإطلالة على ما مضى وما فات وعمّا شهده من بناء أو هدم مع مرّ الزمن .
الزيارة تعني إمكان التواصل والثرثرة مع قريب أو صديق وزميل،
تتدرّب خلالها الذات على التواصل مع الآخر بل وتختبر بصمت هذا التواصل ،
تعني أيضا تجاوز إشكاليّة استمراريّة الوطن فيك أنت وفي الآخر والعكس صحيح .
لربما على خلاف ما تبنيه في الغربة ، وإن اقتضى البناء سنوات فالهباء يراودك كما تراودك الأحلام .
صعوبة البناء قائمة كما الهدم في كلا الحالين والمكانين ،
لكن الغريب أنك في وطنك تشعر بامتلاكك للأشياء ،لا بداعي التملك وإنما بداعي مواطنيتك التي يحلو لك توهمها ، بما تعنيه من حقك البديهي بالإنتماء لأرض وعائلة ، زاروب ولدت فيه ، شقة سكنتها ، ومكتب عملت فيه ، بحر سبحت في مياهه ، وشجرة تفيأت ظلها أو قطفت ثمرة من ثمارها ، وأغاني بقيت ترددها في سني غربتك ، وموسيقى استمريت في دندنتها ولقمة لم تتذوقّها إلاّ فيه وبقيت تتحسسس طعمها ..وو! ويسعدك عندما ترى بأنك لم تنس طبع شقيق أو شقيقة ، صديق أو صديقة ، وأن شقيقتك لم تنس ما تحبه وتعد لك لائحة الأطباق المفضلة لديك خاصة إن لم تكن بارعا في إعدادها .
تحضير طبق لا علاقة له بالطعام بل هو ضرب رقة وحنان ، لا تجده إلاّ في وطنك .
في الغربة قد ترافقك المشاعر تلك لكن يُمكنها الإنحسار عندما تقوى جذورك في الوطن .
الوطن شيء والغربة شيء آخر ،
في الوطن أنت تحمل جنسيتك التي لا يمكن انتزاعها منك إلا لاقتراف ذنب ، الرفض ، النقد، العيش وأن تغيب عنه لتعود إليه أنت متى شئت وتنتظر الموت عندما يشاء هو .
أن تتجوّل في شوارعه كما كنت قبل غيابك وإن اختلفت الأجواء ، تتسكع عند عودتك وتشعر أنّ الشوارع هي شوارعك وتعرفها عن ظهر قلب، وأن العبارات التي تسمعها هي عباراتك أنت لم تستأجرها من لغة أخرى ، اللغة هي لغتك ، والتعبير هو أنت ، تعبّر عن كل ما يخالجك دون أن يمننك أحد !
أن تشعر أنك أنت ومن تعرفهم إنهم هم ، لم تبدلهم السنين وكأن لا مسافة وزمنا مضى أو كأنك غادرت البارحة وليس منذ 25 عام .
في الوطن وإن شعرت بالغربة، لكن بوسعك اللجوء إليه وتغادره متى شئت إن أردت واستطعت ، لست مُهدّدا بإقامة ، جنسية أو الاعتراف بك، تصنيفك و…
في وطنك لا داع لشرح من أنت وأنك غير آت من فراغ .
الوطن شيء والغربة شيء آخر،
قد ينفرد الوطن بلمحة إنسانية ، تتلخص بأنك عندما تزوره وتغادره تدرب ذاتك على الإعتياد كي لا تفتقد في غربتك الوجوه ،
الوطن شيء والغربة شيء آخر،
ولعلهما يتساويان عندما لا تملك وطنا من الوطنين.
(انتهى)
* تم نشر الجزء الأول في 21ـ08ـ2023