عن ديسيبلين(انضباط) فن الاداء الغنائي والتراتيل الدينيه
هذا الموضوع يتناول ترتيلة " أعطنا ربي أن نراك " ،كلمات الشاعر الكبير الراحل سعيد عقل، وألحان الموسيقي الاب منصور لبكي كنموذج أكاديمي .. ومثال لترتيلة راقية تُحتذى بكمالها الفني .
من اجمل التراتيل التي تتآلف بداخلها شاعرية الكلمه (سعيد عقل) المتآخيه بجمال الوقْع الموسيقي لألحانها التي عرفت كيف تتوازى بتكامل التعبير النغمي للأب منصور لَبَكي التي كتب أنغامها باسلوب تلحيني يزدهر بجماليات السهل الممتنع !.
اول مره سمعت بهذه الترتيله كان منذ ست سنوات في كنيسة القديس مار شربل الكائنة بضواحي بروكسل وبصوت الفنانه والمطربة والملحنه السيده جاهده وهبه ،التي باغتتنا بأدائها الآسر امام جمهور حي متنوع (كنت مدعواً مع اصدقاء لبنانيين وبلجيك) فاصابنا الاداء المتمّكن من اجواء الترتيله بنوع من الابهار والدهشه،لا سيما ان اجواء الخشوع والصمت كانت طاغيه لتملأ المكان وهي تؤديها في قاعه كنسيه كبيره ومرتفعة السقف ومن دون مايكروفون ! كما انها أدتها بعد ترتيلة اخرى مدهشه من كلمات الامام علي بن ابي طالب ، وتراتيل أخرى تعمدت خلالها التنويع في المقامات بشكل باذخ مؤثر .
منذ تلك الحفله وانا اعود بين فتره وأخرى باحثاً عبر "اليوتيوب" عن أي وجود لأي أداء جديد قام به فنانون اخرون لهذه الترتيله الساحره . وكان يلفتني دائماً بعض مظاهر التصنّع (سواء عن جهل او تعمّد) والذي يخفيه او يُظهِرُه وبِتكلّف البعض ممن أداها ، ليصل بهم هذا الخروج بعيداً عن صدق التعبير الفني الذي تمتلئ به مكنوناتها ومضامينها الباذخه بالخشوع والتواضع والتقرّب الى قلب الخالق وبهائه اللامتناهي !!!
يبدو انه من هنا بالذات تبرز أهمية ودور فن الاداء بشكل عام سواء في الغناء او الموسيقى او اَي فن آخر ! اما فن أداء التراتيل والأعمال الغنائيه واهميته في التعبير عن المضمون الفني بصدق ، سواء ما يتعلق منه بالقدره والكفاءه الفنيه، او بصدق الأريحية وشفافيتها الصوتيه ، فيبرز هنا اكثر ما يبرز للوصول بمضامين التراتيل الدينيه والهدف منها الى شط الأمان، بعيداً عن عملية استعراض عضلات الصوت في غير مكانه !.
ومن هنا تبرز اهمية الشفافيه والصدق بما في قوة الاداء من اسرار وصنعه وحنكه وشفافيه، يمتدان بين الصمت والضجيج بما لا تساوم على حساسية الغريزه الفنيه لموهبة فن الاداء وقدسيتها في اداء التراتيل . في اعلى هذا البوست أُشير وأُشيد بإحدى المقاربات التي اعجبتني لصدقها وبساطتها من جهه وابتعادها عن التصنع في الاداء الغنائي من جهه اخرى ، وكأن هذه السيده التي تؤديه بصوتها (وأنا لا اعرفها واسمها غاده نعمه)حيث يبدو واضحاً انها لا تسعى ابداً الى إضافات صوتيه لا يحتملها النص أو طبيعة اللحن في اجواء الطنين الذي ترتكز عليه نغمات اللحن . هذا من جهه الصوت الذي يغنّي ، كما أن عازف البيانو المتمكن من جو الترتيله من جهه ثانيه لا يبدو انه يسعى ابداً الى الاثاره بتحميل اللحن ميلودياً ما قد لا يتحمله من إضافات، سواء بالإئتلافات الهارمونيه المركبه بطبيعة التونال من جهه أُولى ، ولا بالزخرفه اللحنيه التي تتوسل التلوين بألاربيدجيوات التي تتوسل تأثيرات المودال والحليات الاخرى من التزخيط باللحن على سُلُّمي البيانو المزدوج "الغليسندي"وبالبهلوانيات والاورنامنتس ornaments الاخرى من جهه ثانيه .
وكأني بهما معاً ، المُرنِّمه غاده نعمه وعازف البيانو فادي سعاده يعرفان جيداً ماذا يفعلان والى أي مدى ينبغي عليهما التقيّد والانضباط بإقتصاد الاداء على مستوى النص ،بما يُبقيه على سجيته وخشوعه وشفافيته بلا اجتهادات شخصيه وفذلكات تتعمد الحشو النغمي والهارموني الخارج عما لا يحتمله ديسيبلين التعبير عن المضمون العام لهذه الترتيله بشكل خاص وبقية التراتيل بشكل عام .
النسخات الاخرى الاقل جوده ولا تحتوي على التجانس المطلوب في ديسيبلين الاداء الفني والموجوده على اليوتيوب ، تتميز بِنِسب متفاوتة من التكلّف اللفظي والخروج عن المضمون النغمي واللحني لفن الأداء، أجدها أكثر ما أجدها في نسخة السيده ماجده الرومي والتي ظلت من بداية الترتيله الى آخرها تلهث بتعمّد واضح وهي تحاول استغلالها ببعض التصنّع الذي يتطفّل بدوران الاداء بما لا حاجه فنيه له ولا طائل إدائي منه سوى ظَنِّها انها بذلك تستغل رونق الترتيل غنائياً لتضيء على شخصها وصوتها الذي لم تشفع لهما لا شِكِلْ الترتيله ولا مضمونها الداخلي ليتوازيا بها ، ( ادائها وصوتها ) وذلك لعدم قدرته على فهم حدوده في التعبير عن بقية عناصر الاداء الغنائي ،بشكل ذهب بها الى ما لا يحتمله العارف باسرار فن الغناء ومتطلبات فن الترتيل بهذا الشطط بعيداً عن اسلوب صوتها الذي يتردد بين تصنُّع لشرقيه مفقوده فيه من جهه ،والتكلّلف بمعرفه اكاديميه لتقنيات الغناء الغربي ومزجه دون معرفه أو درايه وحنكه بما لا يحتمله من فن ابتكار العُرَبْ وحشوها في منطقه ميته لا تتقبله المسافات بين الانترفالات الصوتيه لأجزائها الغربية الطنين من جهه أخرى، فيذهب صوتها الى الخروج وتزخيط التعبير خارج تقنيات فن الاداء ببساطه يفترضها السهل الممتنع الذي لا تحتمله ترتيله بهذه الغنى والثراء الباذخان !.
اعتقد ان على السيده ماجده الرومي ان تتعلم التفريق بين ادائها لأغنياتها الخاصه التي قد يحق لها ان تتصرّف بها كما يحلو لها ، وبين ادائها للتراتيل والتهاليل والكلاسيكيات سواء العربيه أو الغربيه التي قد لا تناسبها !. علماً ان هذه الترتيله بالذات جاءت على مقام ال LA MINOR وبايقاع مربّع، وكلاهما لا يتطلبان أي خبره صعبه او استثنائيه أم معقده ابداً !.
باختصار الاداء فن بحاجه لقدرات مختلفه وذي صنعه عاليه، خصوصاً عندما يتعلق الامر بالمُنجز من الروائع !.
ملاحظة:الترتيلة بصوت ماجدة الرومي وغادة نعمة