عن ازمة النظام اللبناني وآليات التغيير
د.طارق عبود*
لقد دمّر انفجار المرفأ نصف بيروت، وهو في الطريق إلى تدمير الأمل الباقي عند اللبنانيين في بناء دولة ووطنٍ يعيشون فيه كباقي الأمم. فهل دمّر عصف الانفجار هذا النظام أيضًا؟ أم أنه لا زال قويًا وعنيدًا ومتماسكًا وحاجةً محليةً ودولية؟
قبل الخوض في الكلام على النظام اللبناني الطائفي،لا بدّ من الإشارة استهلالًا إلى مسألة مفصلية شديدة الأهمية، تتعلّق بإخفاق الدولة الوطنية العصرية الحديثة في الوطن العربي ككل، وليس في لبنان وحده ،فإذا كان النظام اللبناني علّته المحاصصة الطائفية، فإنّ الأنظمة العربية الأخرى لا تقل سوءًا عنه. فهناك أنظمة تحكمها عائلات تتوارث العرش منذ عشرات السنين، وتحكم بالحديد والنار والقتل والتعذيب والسجن،وخنق الآراء السياسية، وهناك على الضفة الأخرى أنظمة الديكتاتورية وعسكرية أيضًا.
الموضوع إذًا لا يتعلق بلبنان فقط ، وإنما ككيان يتأثر بجاذبية جغرافية وتاريخية تدور في فضاء دول اصطنعها الاستعمار من أجل تتفيذ وظيفة محددة. وفي المقابل تعمل الدول الاستعمارية نفسُها على حماية هذه الأنظمة ورعايتها وإطالة عمرها،وخنق أي تغيير قد يحصل، يتيح إمكانية تحرّر شعوب الأنظمة من أصفاد هذا الاستعمار وسطوته وظلمه.
ويحضر الكيان الصهيوني كمعطى آخر يمنع تطوير الأنظمة المتخلّفة،وهو كيان اصطنع في قلب هذه المنطقة بهدف الإعاقة والهدم والتوسّع والاحتلال والنهب والقهر والتسلّط. ولا يخفى على أحد أنّ هدف الغرب هو المحافظة على تفوّق الكيان الصهيوني،وإدامة وجوده وتقويته،ولا يتمّ ذلك إلا عبر إضعاف الأنظمة المحيطة وتفتيتها وإبقائها متخلّفة حضاريًا وعلميًا وثقافيًا وصناعيًا. ويتبادل الغربُ الخدمات مع عائلاتٍ سياسية وأشخاص وأصحاب رؤوس أموال وأوليغارشية حاكمة متجذّرة في بنية هذه الدول، ومرتبطة تاريخيًا أو ظرفيًا بهذا الغرب.
إذًا، نستطيع القول، إنّ هذه الأنظمة، ومنها النظام الطائفي اللبناني هو ضرورة تستمر باستمرار تأدية الدور الوظيفي لها، ولكي تكون صخرةً متينةً مانعة أمام أيّ تغيير أو تطوّر، تتطلّع إليه الشعوب في هذه المنطقة.
عن الآليات المتاحة لتغيير النظام؟ وهل هناك مشروع عند القوى التغييرية؟ ومن هي قوى التغيير؟
من شروط بناء الدولة وجود نظام سياسي بمكونات ومشروع واضح، وبُنى اقتصادية منتجة تستطيع ممارسة دورها وتحصين المجتمع، وتدعم الفكرة السياسية وتحميها.لأنّ ما شهدناه في العقود الأخيرة من عقوبات اقتصادية على الدول والأنظمة التي عارضت المشروع الاستعماري الغربي، يجعل من العنصر الاقتصادي عاملًا مرادفًا للمشروع السياسي وموازيًا له، ولا يقلّ أهمية عنه.
يواجه اللبنانيون اليوم عددًا من الأسئلة الكبيرة التي نستطيع تأسيس النقاش حولها، ومنها:
هل يسمح الخارج بانتقال لبنان إلى نظام حداثي غير طائفي، وبالتالي الولوج نحو دولة ديمقراطية عصرية ؟ هذا سؤال كبير وبحاجة إلى نقاش معمّق،ومقاربة حقيقية، بغضّ النظر عن تصريحات المسؤولين الغربيين، ومطالبتهم بالإصلاح، وتفعيل النظام الديمقراطي،والعقد الجديد، ومكافحة الفساد، وما شاكل.
سؤال آخر يحضر في السياق هو: هل يسمح زعماء الطوائف والمستفيدون، أحزابًا وشخصيات ولوبيات وعائلات سياسية، بتغيير هذا النظام، بحيث تصبحُ مصالحهم وامتيازاتهم التي اكتسبوها منذ تأسيسه، وصولًا إلى اتفاق الطائف وما بعده، في خطر؟
وهل يتم هذا التغيير من داخل النظام المتجذّر في كل تفاصيل المجتمع وآلياته نفسها، وعبر استخدام أدواته نفسها، ومراعاة المصالح السياسية والاقتصادية والمالية لبنياته المركزية، كالمصارف والوكالات الحصرية،واحتكار المواد الأساسية كالغاز والنفط والإسمنت والحديد والدواء وما شاكل والسيطرة عليها؟
هنا يصبح الحديث عن تغيير النظام ضرورة ملحّة، وليس عبر تعديله وتجميله وتدويره وإعادة خلقه في حلّة جديدة وممسوخة، تُبقي على المنظومة المتحكّمة فيه،(سياسية واقتصادية) فاعلة ومستفيدة ومقرّرة أيضًا.
االسؤال هنا عن القوى التغييرية،من هي القوى التي تريد التغيير الحقيقي؟ لكنّ المشكلة الحقيقية في لبنان أيضًا، تكمن في عدم وجود قوتين سياسيتين أو مجموعتين طائفتين تتفقان على مشروع تغييري واحد؟ فإذا كان اللبنانيون غير متفقين، وبعد مئة سنة من تأسيس الكيان اللبناني على هوية وطنية جامعة، فكيف سيتفقون على تغيير النظام الذي يحمي الهويات الطائفية؟ وكيف ستقتنع مجموعات مستفيدة بالحدّ من صلاحياتها وامتيازاتها طوعًا؟
ماذا عن آليات التغيير وأدواته
في الحالة اللبنانية برأيي، لا يتم تغيير النظام إلا عبر طريقتين:
الأولى: هي التغيير التوافقي، أي اتفاق الأطراف السياسية و(الطائفية) على نظام جديد، عبر إعادة ترتيب مصالحها بشكل محدث، كما حصل في الطائف نوعًا ما، وبالتالي إعادة إنتاج النظام نفسه، ولكن بطريقة معدّلة.
الثانية: هي التغيير القسري أو الدفعي. وذلك عبر فرض أحزاب ومجموعات تلتقي على فكرة معينة، ومشروع سياسي واضح، تعمل على فرض مشروعها وتحقيقه،ما يعني حربًا جديدة، كبيرة كانت أم صغيرة، وهذا سيواجه عقبات كبيرة في بلد كلبنان.
إذًا، في المحصّلة، نستطيع القول، وبعد التجربة الخطيرة في السنة الأخيرة، والتي راهن كثيرون على أنّ الانهيار الاقتصادي سيؤدي تلقائيًا إلى ثورة حقيقية للتغيير،لم توافق رغباتهم لأنّ حسابات "التغييريين"- وبالمناسبة هم ليسوا من مجموعات الحراك او الثورة- لم تتوافق مع بيدر الدولة العميقة بكل وجوهها، فتفاجأت الناس بالحقيقة، وأصابها مزيجٌ من الإحباط والخوف والقهر، لأنّ آمالها تبّخرت كما الأموال والرواتب والأحلام، ووجدت نفسها أمام نسخة جديدة ومنقّحة وأكثر قسوةً وفجورًا من الطبقة السياسية والاقتصادية. وبعد كل ما حصل، وبحسبةٍ بسيطة تدلّ على قوة هذا النظام، أنه لو خُيّرّ اللبنانيون بالعودة إلى ما قبل آب من العام 2019 مع بقاء هذا النظام وعلّاته،(ويا دار ما دخلك شر) أو أن يستمروا في ما يعانونه اليوم،أو في ما يخبئه لهم المستقبل، فإنّ غالبيتهم سيكون خيارها واضحًا.
بناءً على ما تقدّم، نستنتج أنّ النظام الطائفي اللبناني، مع تهالكه وتفّتته، وإثبات فشله الذريع في أن يكون إطارًا محدثًا وجامعًا للبنانيين؛ فإنّ أُسُسَه ثابتة وراسخة ومتجذّرة وعميقة بشكل كبير، وبقاؤه رهنٌ لتقاطع المصالح الخارجية مع الأدوات الداخلية المستفيدة من استدامته، وهي المتمثّلة في مرجعيات دينية وسياسية وعائلية واقتصادية ومالية متضامنة ومتماسكة، وبالتالي هي من سيمنع أي تغيير، حتى لو لم يبقَ في لبنان حجرٌ على حجر.
* أستاذ جامعي وكاتب وباحث