كتب واصف عواضة – خاص الحوارنيوز
لعله من المبكر الحديث عن مستقبل سوريا وإدارة نظامها بعد سقوط نظام بشار الأسد. فقبل ذلك يجب معرفة التفاصيل الدقيقة والكاملة التي رافقت إنهيار هذا النظام بهذا الشكل الصادم بعد 54 عاما من حكم حزب البعث العربي الإشتراكي ،وما هي طبيعة الصفقة التي أبرمت على هامش هذا الحدث الكبير.
ليس مهما موقف الأعداء والخصوم في هكذا حالات ، فأهدافهم ودوافعهم وتصرفاتهم غالبا ما تكون معروفة، لكن الأهم هو موقف وتصرف الحلفاء والأصدقاء . وقد قيل كلام كثير خلال الأيام الماضية حول الموقفين الإيراني والروسي ،وسيقال الكثير بعد ، ولم تسلم طهران وموسكو من أفعال “التقصير والتخلي والنصيحة والإبتعاد والتآمر والطعن ” بنظام الأسد ودفعه إلى التنحي والرحيل بهذه “الطريقة المذلّة”.
بالتأكيد وحده بشار الأسد يعرف التفاصيل الكاملة، لأنه وحده كان نقطة الوصل التي انصبت عندها كل الاتصالات والمداخلات التي دفعته إلى عدم التصدي للمعارضة المسلحة، بما وفّر على سوريا بحرا من الدماء .وأغلب الظن أن الحقيقة لن تظهر تماما قبل أن يتفرغ الرئيس السابق لكتابة مذكراته بصدق وأمانة وشفافية.
لماذا سقط نظام الأسد بهذه الطريقة “السلسة” التي لم تخطر على بال أعتى الخصوم وأقرب المقربين؟
باختصار ،ربما لأن هذا النظام أصبح “لزوم ما لا يلزم” ، للإعداء والحلفاء على السواء. ولربما كانت خطيئته الكبرى أنه لم يشعر بذلك قبل أن يطلق أبو محمد الجولاني النفير باتجاه حلب، توطئة للسيطرة على سوريا وعاصمتها في أقل من أسبوع واحد.
كان على بشار الأسد أن يرمي الكرة في وجه الحلفاء والأعداء قبل ذلك بكثير،سواء بالتنحي والرحيل ،أو بالاستجابة لمناشدات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان .لكن يبدو أن شهوة السلطة كانت ماثلة أمام ناظريه كأي حاكم أغرته الكرسي على قاعدة هارون الرشيد الذي كان يقول :”الملك عقيم”. وربما هناك “قطبة مخفية ” حالت دون إقدامه على خطوة جريئة.
كان بشار الأسد قد أصبح عاجزا عن إدارة البلد منذ سنوات طويلة ،لأسباب منطقية وواقعية،بعضها داخلي ،ومعظمها خارجي. ومن هذه الأسباب:
- باتت سوريا ثلاث دول ،واحدة يحكمها النظام(برعاية إيرانية روسية) ،واثنتان تسيطر على إحداها المعارضة المسلحة (هيئة تحرير الشام برعاية تركية) والأخرى الإكراد (قوات سوريا الديموقراطية “قسد” برعايىة أميركية).وعليه لا يمكن إدارة بلد تحكمه كل هذه الرعايات .
- إنهيار إقتصادي ومالي مريع نتيجة الحصار الدولي المفروض على سوريا ،من قانون قيصر الأميركي إلى المقاطعة الدولية والعربية شبه الشاملة والكاملة ،بما رفع الشعب السوري إلى أعلى مراتب الفقر والعوز والفاقة ،وانتشار حالات الفساد لدى بعض الشرائح المعروفة والتي لم يتمكن النظام من وضع حد لها أحيانا ،أو رعايتها في بعض الأحيان. وربما ظن الأسد أن انفتاح بعض الدول الخليجية على نظامه وعودته إلى الجامعة العربية ، قد توفر لهذا النظام ضمانة للاستمرار في الحكم ،فتبين أن ذلك لم يكن أكثر من أوهام.
- عجز النظام عن المواجهة في الداخل والخارج. فلا هو استطاع خلال السنوات الماضية أن يغيّر حرفا في جغرافية “دولتي المعارضة والأكراد” في شمال سوريا ،ولا تمكن من دفع الإعتداءات الإسرائيلية الدائمة والمتكررة حتى عن أهم المؤسسات والمناطق السورية، بل أنه فضل عدم المساهمة في جبهة إسناد غزة كما فعل لبنان والعراق واليمن. يُسجّل له أنه أبقى الحدود مفتوحة مع لبنان لتزويد المقاومة بالسلاح، لكن إسرائيل كانت دائما بالمرصاد لهذه الفضيلة.
- عدم قدرة الأسد على تطبيع العلاقات مع تركيا وهي الدولة الأكثر طمعا وخطرا على سوريا. لم يكن الرئيس الراحل حافظ الأسد يخشى دولة في العالم أكثر من الدولة التركية ،نظرا لهذه الأطماع التاريخية التي يجاهر بها بعض الساسة الأتراك علنا ،من أن شمال سوريا هو جزء من تركيا ،خاصة مناطق حلب وإدلب وغيرهما.وثمة وقائع كثيرة تعامل فيها الرئيس الراحل مع تركيا بكثير من الحنكة ،ليس أقلها تسليم زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان لأنقرة.ويقال بأن بشار الأسد رفض التخلي عن شبر من الأراضي السورية لتركيا لقاء التفاهم مع أردوغان ،وإذا صح ذلك تكون هذه فضيلة تُسجل له.
- إحساس الحليفين الكبيرين ،إيران وروسيا ،بأن نظام الأسد دخل حالة من الجمود الذي يصعب إعادة إحياء ونهوض سوريا في ظله ،فضلا عن بعض التناقضات بين الحليفين. صحيح أن نظرية التخلي عنه تحتاج إلى الكثير من الدقة ، ولكن هموم إيران وروسيا كانت أكبر من أن يدافع الجيشان الإيراني والروسي مباشرة عن النظام السوري ، في ظل إنهيار الجيش السوري بهذه السرعة ،وربما لذلك أسبابه المنطقية ،إذ ليس معقولا أن يدافع جيش جائع عن أرض مستباحة ونظام عاجز،وقد سمع العالم شهادات بعض الجنود والضباط في هذا المجال خلال الأيام الماضية.
لكل هذه الأسباب ،وربما أسباب أخرى ستكشفها الأيام ،كان هذا السقوط المريع لنظام الأسد الذي بات وجوده وغيابه سيان.
لكن السؤال المريع الذي سيبقى ماثلا ،ليس من سيحكم سوريا غدا،بل ما هو دور سوريا غدا؟
لعل المؤشرات واضحة جدا. فمنذ بداية “الثورة السورية” في العام 2011 ،بدا واضحا مع الأيام أنه ليس المطلوب أميركيا وغربيا إسقاط النظام السوري ، بل إلغاء الدور السوري الذي لم يكن في الإمكان تجاوزه في أي شأن من شؤون المنطقة طوال ثلاثين عاما من حكم الرئيس الراحل بشار الأسد.
كانت سوريا حجر الرحى في كل شؤون المنطقة ،جغرافيا وسياسيا ، ولم يكن للقضية الفلسطينية أن تتهاوى إلى هذا الدرك،ولم يكن بالإمكان أن تجرؤ إسرائيل على محور المقاومة وتدمير غزة ولبنان على هذه الصورة ، في ظل “سوريا قوية”.
للأسف الشديد،لم يكن بنيامين نتنياهو واهما عندما تحدث عن “تغيير الشرق الأوسط”. فالشرق الأوسط من دون سوريا قوية وحاضرة وفاعلة سوف يتغير بالتأكيد،وها هو نتنياهو يكمل على سوريا القوية بتدمير قدرات الجيش السوري ومؤسساته عبر مئات الغارات التي شنها الطيران الإسرائيلي على سوريا خلال الأيام الماضية.
الواضح أن الإرادات الدولية ألغت نظام بشار الأسد بعدما تيقنت من إلغاء دور سوريا!!