علي أيوب ..وسادة الجنوب (حسن علوش)
علي أيوب وسادة الجنوب
حسن علوش
عندما أخذتنا أغنيات مارسيل خليفة الى “علي” وأدخلتنا عن وعي وتصميم كاملين، إلى حيز النقاء والرغبة بولادة وطن جديد يكون فيه “علي” رمزاً لسيادة مصانة ونموذجاً لعطاء لا تحده تضحيات، لم يكن “علي” من وحي الخيال بل كان من أرض الواقع، شاب خرج من رحم الأرض له منها لونها وخيرها ولها عليه حق الدفاع عنها وحراستها وحراثتها.
خارج كل النصوص والكتب، مارس علي أيوب حقه في الدفاع عن وطنه وأهله عندما كان البكوات نائمون من فرط التخمة، كان علي ورفاقه صاحون من ألم الفقر وأنين الفقراء.
كتبت الكثير عن “علي” نصوص وجدانية وكان اسمه عنوانا لبعض المحاولات التأريخية لعمل المقاومة والمواجهة بين أهل الجنوب والغزاة، وها هي خديجة علي أيوب تقوم بما كان يجب أن يحصل منذ سنوات، لعله عمل ينطوي على خصوصية عائلية وانسانية في جانب منه، لكنه يؤسس لعمل أعمق وأشمل الى جانب بعض المحاولات التي صدرت بعد الاجتياح الاسرائيلي العام 1982 ومنها كتاب “المقاومة” للباحث والقيادي السابق في الحزب الشيوعي اللبناني كريم مروة.
عل أيوب وسادة الجنوب كي ينام ابناء “علي” وهم مطمئنون بأن أحداً من الغزاة لن يجرؤ على حبة من ترابنا ولا أحد من العملاء يجرؤ على الطعن بسكين الخيانة من الخلف.
تنشر “الحوارنيوز” فيما يلي مقدمتين للكتاب، الأولى بقلم الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني حنا غريب والثانية للمؤرخ د. منذر جابر.
علي أيوب العين التي قاومت المخرز
بقلم حنا غريب
الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني
“علي أيوب شعلة بعدها مضوية،” شعار هتفنا له وصدحت به حناجرنا في شوارع بيروت يوم كنا طلابا في الجامعة اللبنانية في سبعينيات القرن الماضي. على اسمه وحكاية استشهاده البطولية تعرفنا الى حزبه وانتسبنا اليه انتصارا للقضية التي استشهد من أجلها. احتلت صورته قلوب جميع المقاومين الاحرار ووجدانهم، ورفعناها في التظاهرات وفي معارض الكتب وعلى جدران المدن واسوار الجامعات وكلياتها. بها رفعنا رؤوسنا وفي ظلها اجتمعنا مع اتراب لنا اقمنا ندوات و نقاشات حول المقاومة بدات ولما تنته بعد . كان زادنا المعرفي وسلاحنا الامضى الذي كنا به نشعر بنشوة الفوز بتلك النقاشات الى ذكراه الغالية نوجه تحية اكبار واجلال من خلاله الى كل الرفاق الشهداء الذين سبقوه على درب المقاومة و خيارها منذ ثلاثينيات القرن الماضي مع عساف صباغ الشهيد الشيوعي الاول على تلك الطريق.
علي أيوب اسم حفر عميقاً في تاريخ لينان…مقاوماً، شيوعياً ،جنوبياً، لبنانياً، عربياً….كان ولا يزال رمزاً من رموز حزبنا المقاوم . لقد خط بالنار وبالاستشهاد مسار الرد على الاعتداءات الصهيونية على بلدته عيناتا وقرى الجنوب وعلى اغتصاب فلسطين من العصابات الصهيونية من جهة وعلى تواطؤ النظام الرسمي العربي وعجزه وارتهانه من جهة اخرى. هو ذلك الفلاح الفقير شأنه شأن كل من نحت من صخور لبنان والجنوب جلولا للخير راقص شتلة التبغ شتلة الصمود والمقاومة. فهِم طبيعة الصراع فبين الاحتلال والاهمال كانت كل قرى المواجهة تعاني العدوانين: عدوان عصابات الهاغانا وجيشها العنصري وتخلي النظام اللبناني صاحب استراتيجية قوة لبنان في ضعفه وعليه كان الرد في الاتجاهين وان قوة لبنان في مقاومته المزدوجة ضد نظام الطوائف والمذاهب والتبعية والارتهان وضد العدو الصهيوني المحتل لارض فلسطين الواقعة على مرمى الصوت والعين من بلدته عيناتا الى جانب اقرانها من قرى المواجهة و المقاومة والصمود.
علي ايوب اسم أرّخ لمرحلة تاريخية من حياة حزبنا الشيوعي وبخاصة لمقررات مؤتمره الوطني الثاني والذي كان مندوباً اليه باسم منظمته ولموققه المقاوم للعدو الصهيوني وللاحتلال ولكيانه العنصري باعتباره القاعدة المتقدمة للامبريالية الغربية في منطقتنا من لجب تأمين سيطرتها قمع شعوبها ونهب ثرواتها. لقد جرى التخطيط لذلك من خلال انشاء انظمة رجعية زرعت على رأسها سلطات مرتهنة و خاضعة لاستراتجيتها فضلا عن تثبيت لنظمة قائمة على سلطة الجيوش في عدد كبير من الدول لكبح مسار الحركة الشعبية التحررية وبخاصة حيثما نمت حركات شيوعية ويسارية جماهيرية صاعدة . ومن هذا المنطلق احتلت القضية الفلسطينية مركزيتها بوصفها قضية مواجهة مع الامبريالية من أجل التحرر الوطني وبناء مستقبل افضل لشعوب المنطقه.
علي أيوب نجمة مضيئة في مسيرة حركة التحرر الوطني العربية باعتبارها الشكل المميز في الصراع الطبقي في بلادنا التي ترجم بها حزبنا مقولة لينين: يا عمال العالم ويا ايتها الشعوب المضطهدة اتحدوا. فمن هذا المعدن الصلب من الشيوعيين الأبطال حاول حزبنا ولا يزال يحاول بناء بديل ثوري لقيادة هذه الحركة. وهو يطرح اليوم رؤيته لذلك في الوثيقة الفكرية السياسية البرنامجية المقدمة للمؤتمر الوطني الثاني عشر: “حركة التحرر الوطني العربية بين الازمة والتجديد ” “والتحرر الوطني طريقنا الى الاشتراكية ” مشددا في كليهما على أن العداء للامبرالية لا يستقيم ما لم يترافق مع العداء للراسمالية. معترفا بأن اليسار العربي عموما لم يصل في تعاطيه مع الخطر الوجودي الناتج عن مشروع الهيمنة الامربالية الى الحد الذي يمكنه من تعبئة الشعوب العربية لتشكيل كتل شعبية تاريخية في مواجهة تحديات هذه المرحلة داعياً الى قيام حركة تحرر وطني من نوع جديد؛ نعم مقاومة عربية شاملة في السياسة والاقتصاد الاجتماعي والسلاح قائمة على طرح جديد للقضية القومية قوامه ان الطبقة العاملة و القوى الاجتماعية المتحالفة معها هي الفئات ذات المصلحة في تحقيق التحرر الوطني وهم الاكثر استعداد للمضي بهذه المهمة حتى النهايه بينما البورجوازية التابعة محكومون بأفق تسووي مع المحتل الاسرائيلي والقوى الامبريالية.
ولأنهم لا يريدون شاهداً على جريمة العصر ولا بديلا عنهم قمعت هذه الانظمة الرجعية الشعوب العربية وافقرتها ومعها اضطهدت حركاتها التحررية واغتيل قادتها وسجن مفكروها وقادتها السياسيون المقاومون وبعضهم قضى نحبه داخل الزنازين. لقد جاءت المقاومة الشعبية ردة فعل طبيعية فلسطينيا مع منظمة التحرير وعربياً مع قوات الانصار التي شاركت فيها الاحزاب الشيوعية العربية وقدم حزبنا شهداء في مسيرتها الكفاحية من بينهم الشهيد ابراهيم جابر وصفوان دندشي وعلي سويد وتستمر المسيرة مع تجربة الحرس الشعبي عام ١٩٧٠ ذلك النموذج القائم على ازدواجية المواجهة بين العمل العسكري المباشر من جهة وتامين موجبات الصمود للقرى الاماميه من جهة اخرى. هكذا قارب الشيوعيون تلك المسالة بإتجاه العدو الذي ما برح يقصف ويعتدي ويقتل وبوجه نظام سياسي بطبيعته ووظيفته غير قادر على القيام بموجبات تلك المواجهة فترك سكان المناطق عرضة للاعتداءات والفقر والعوز. وعليه انتظم الشيوعيون اللبنانيون من كل المناطق وراء ذلك الخيار وخاضوا المواجهة فكان الرفيق علي ايوب ورفاقه العين الساهرة بحدود المواجهة يتصدون ويقاتلون ويعملون في يومياتهم في الزرع والانتاج. هكذا كانت المعركة واضحة ثابتة لا لبس فيها ولا التباس. ثم جاءت”جمول” في العام١٩٨٢ضد الاحتلال الصهيوني للعاصمة بيروت والمناطق اللبنانية المحتلة من جهة وردا ثوريا في وجه الخيارات السياسية العربية الانهزامية من جهة مؤكدة الخيار الصحيح والبوصلة التي تؤشر دوما الى الوضوح في الاتجاهات في مقاومة حركة التآمر التي بدات مع كامب دايفيد وصولا الى توقيع اتفاق اوسلو الذي شرع الأبواب لاحقا لتوقيع اتفاقية وادي عربة مع الاردن وبدء المفاوضات الثنائية مع العدو. تلك هي بوصلة علي ايوب التي جعلت مقاومة العدو وقطار التآمر والتطبيع مسار المواجهة حتى تاريخه وليس بالسلاح فقط بل بكل اشكال المواجهة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعلى طريق التحرر من نظام التبعية للرأسمال المعولم وأدواته في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ولم تكن الحرب الاهلية في لبنان الا المختبر التي بانت من خلاله كل موبقات النظام الطائفي التي اسست له سايكس بيكو ونمته سلطات الانتداب من اجل الاستمرار في ممارسة الضغوط وتشريع التدخلات الخارجية وفرض الشروط السياسية بما يخدم مصالحها.
لعلي أيوب ورفاقه نقول: شعلة المقاومة ستستمر والمواجهة مع نظام الملل والمذاهب ستستمر. تضحياتكم التي أسست لهذا المسار ستبقى الدافع الذي يحدد طبيعة الصراع وكيفية خوضه:خيار المقاومة هو الرد الوحيد على العدوان الصهيوني الاميركي على لبنان. واسقاط نظام الطوائف التبعية والارتهان هو الخيار الثابت. فتلازم المعركتين ومن ابوابها المختلفة هو الحل المتبقي امام شعبنا وشعوبنا العربية لكسر حلقات التأمر التي اطاحت منجزات وفرطت في القضية الفلسطينية وما اسستم له سيبقى ويتوهج. وعد لك من حزبك الشيوعي اللبناني ان نستمر على دربك درب كل الكادحين درب كل مقاوم وعى قضية التحرير والتغيير خاضها من اجل وطن حر شعب سعيد.
علي أيوب: أيوب ما غيرو
بقلم د. منذر محمود جابر
تطلّ علينا سيرة علي أيوب على “قلم” ابنته خديجة برواية خاصة لتاريخه. سيرة تبدو مرفوعة بلا حساب. سيرة تنفي وتحذف مِنْ علي أيوب أعماقًا محفورة فيه، أعماق تعطيك بلا جميل، تعطيك دون التباس أو مِنّة.
تُطلّ خديجة في روايتها لعلي أيوب صغيرة، كما تركها” لم تزد عن أمس إلّا إصبعا”، تستسلم لمرويات رفاقه وأصدقائه، التي اخذت بها إلى حيث يريدون له، أو إلى حيث كانوا يرونه عليه. وهو ما انِسَت له نفسُ خديجة وقرّت، حيث يُعفيها ذلك من اتهام بالعطف الزائد والمحبة الزائدة، ما جعلها ترى في أبيها شخصًا جسورًا بحزبيته، شخصًا فريدًا بلا أنداد. تمارس خديجة هذا الحق في رؤيتها لأبيها حتى الثمالة، إلى حيث تظنّ أنّها لم تترك من أشواط حياته زيادة لمستزيد. وهذا حقٌ من حقوقها، لا بل واجبٌ من واجباتها المرفوعة علمًّا في رؤيتها لأبيها.
يحضر علي أيوب ممتدًا بصلاته بين الجميع، علاقة لا تعرف فواصل أو انقطاع، يتقلّب فيها على أوسع مدى شأن علاقة بقيادة فرج الله الحلو، أو شأن علاقته بالوزير والنائب السابق علي بزي، وهو تلك الزعامات التي كان يشعر مناصروها أنّ الولاء لها شرفٌ، ويشعر مخاصموها أنّ الخصام معها تشريفٌ. ثم يعود ويتكور على أصغر نقطة(عضو في هيئة المخترة بعيناثا)، دون أن نتوقّف في الحالين عند رموز الحكاية أو أصحابها.
مالت خديجة في روايتها عن الإشارة إلى علي أيوب الأب، وهو ما لم تعرفه أو تعايشه هي أو إخوانها في أبيهم. ولكنها لم تكتب وتخبرنا عن وجدانها وعن وجدان إخوانها أيتامًا بلا أب. لم تلتفت خديجة على هذه الفصول من حكايتها في علي أيوب، أو لم ترغب أن تنشغل بتقديمها لنا. فالمسافة بين “يوم” علي شهيدًا وبين سنوات أعمار أبنائه يكبرون تمرّ خلسة، فهم ينتصبون أمامنا شبابًا دفعة واحدة. أبناء الحكاية يكبرون بسرعة. تتواطأ خديجة على الزمن فيخيّل إليك أنها تركت أباها لأسبوع فات.
و”المستقبل” الوحيد الذي سارع إليه علي أيوب وباشره ، وترصده خديجة بعين باصرة سابرة كان حَمْلَهُ بارودة في مواجهة الدبابات العدوّة. وفي هذه اللحظة بالضبط تبدو خديجة وكأنها عثرت على هذا “المستقبل”، شهادة علي أيوب. تكتب خديجة وكأن كل شيء بدأ يوم أمس، وكأن لم يكن في البيت من مناسبة أو شهادة. تكتب فيه خديجة فيه تاريخًا عامًا وليس سيرة خاصة.
تتواطأ الرواية أكثر على طفولة الإخوة، حيث قضوها جميعًا فارغين من أبوّة لاهفين إليها لاهثين عليها. لم يترك لنا تواطؤها على ذلك هول الزمن ومرارته.
تواطات خديجة دون أن يكون لها دخل في ذلك.
اللحظة الوحيدة التي لم تتواطأ عليها خديجة، لحظة ظلّت تختزن خاصة الألم المنقوش في الذاكرة، كانت مرور جثة علي أيوب شهيدًا محمولًا ببطانية وقد اسلم الروح، وقد عرفته من قيح رجله ومن جرحها.
وصلنا علي أيوب في الرواية مُقطّرًا مُصفّى، جذلانًا بقيادة حزبه خالصًا في ولائه لمبادئه، في صوفية خالصة لوجه الحزب وامينه العام، آمنًا قرير العين خارج الانفعال البشري وضعفه أمام الطفر والبطالة والعوز ومشاكل العائلة والأطفال الزغب الحواصل.
فما لم تعرفه خديجة في أبيها عينين غير متوازنتين في محاجرهما، تزيح واحدة منهما عن “منصتها”، بحيث نخال كلّ عين لها ما يشغلها في البصر أو التبصر. عينان تديران وجهًا يكشف عن بسمة مرّة، تنزع عن صاحبها أي شعور داخلي بهدوء أو أريحية.
ما لم تعرفه خديجة في علي أيوب وجهه مليءٌ بالتعب والهم، لا يزيح عنهما قيد شعرة. يُخفّفُ منهما أن علي أيوب، كان يعيش على عجلة اللقاء وحتمية وأبديّته مع الاشتراكية، كما كان يعيش غير حزبيين من أحزاب المنطقة على عجلة اللقاء وحتمية وابديّته مع القومية عربية كانت أم سورية.
ما لم تعرفه خديجة في أبيها أنّه كان عشير قلق وعشير غربة. قلق وغربة خاصتان به، وكأن لا علاقة لهما بأحوال هذه الدنيا وحساباتها.
ما لم تعرفه خديجة في علي أيوب، أو ما كتمته عنّا، أنه كان كثير الهدوء قليل الصمت. لم يكن هدوءًا لا خوف فيه ولا ألم أو عذابات. “كان هدوء الكوابيس والمعاناة الصامتة، التي لا يسمع فيها أنين”.
ما لم تعرفه خديجة في علي أيوب، أو ما لم تقله لنا، أنّه كان يعتزل البرد القارس شتاء في صومعته، وصومعته الشتويّة “صاكو” اشتراه من سوق “الخلعي” يلبسه أفراد الجمارك في كمائنهم الليلية، في برد الأودية والجبال تعقبًا للمهربين في ليالي البرد القارس، كان يعتمره علي أيوب في “ديوانية” دكانه، مشاءً ذاهبًا جائيًا من وإلى اجتماعات حزبه في بلدته والقرى المجاورة.
لم تصلنا خديجة بذلك لأنها عرفت أباها عبر صورة شمسيّة لا تملك غيرها، موصولة بما هو خارجه، صورة بطاقة تعريف بهويّة ليس غير، تعريف مزور جامد. تعريف يأخذ علي أيوب كرقم، كعقار بشري، وليس التعريف به إنسانًا موصولًا بواقع ورهان قائم على ثورة وتغيير وإرادة.
عبر هذه الصورة وبعدها، أصبح علي أيوب ملك الرأي العام. فالصورة مفتوحة لكل الناس، مفتوحة على هامش غير محدود من الذاكرة والحديث والسلوك، تلاحق صاحبها بلا رحمة أو مسايرة أو مواربة.
شدّتني هذه الصورة الصمّاء لأن أعود إلى ما أحفظه عن علي أيوب، وجهًا مليئًا بالشوق والتوق. وجهًا نحفظه في دواخلنا ووجداننا، معزولًا في مكان بعيد في الذاكرة. تواطأت الصورة الشمسية على ذلك، وقد ظهر فيها علي أيوب يعتمر شعرًا استعار تسريحته من ممثلي هوليوود في الخمسينات والستينات. أنظرُ بدهشة وكانني لم أر من قبل “غرّة أو “شنيورًا يتقدم الشعر ويعتلي الجبهة.
يترحّل علي أيوب عبر صورته عن هيئته الأصلية. يسلّمنا صورة لا تتعامل مع مشهده الإنساني وتنقله متحركًا حيًا بأمور الفرح والتعب، وإنّما مصبرًا جامدًا محنّطًا. مع هيئته الأصليّة حالة صوفّية مجنونة بالانفعال، ولم يكن ليتخلى عن ناسوته و”البروفيل” الخاص به.
تُقدّم الصورة شرخًا مع علي أيوب، فهل نبتعد عن الحقية لو تخيّلنا أن علي أيوب هرب تكرارًا من كرسي التصوير. هل نبتعد عن الحقيقة لو قلنا أن علي أيوب كان على تعامل أول مع قميص أبيض بياقة بيضاء، أو كان على موعد أول مع “الكرافي” استعارها معقودة من استوديو التصوير؟
ولا نبتعد عنها كذلك لو قلنا أنّ صورته أضحكته كثيرًا إلى حد استدماع عينيه.
يوم بسط أبناء الشيوعي نعيم جميل الشيخ حسين صورته كما هو، “لوغو” أو “بروفايلًا” خاصًا به موقوفًا له “نعيمًا جميلًا” في معمله. عينه اليسرى مفتوحة بألوانها على النظر والبصر، وعينه اليمنى مفتوحة ببياضها الكامل على البصيرة النافذة التي لا تخرم أو تخطىء، ثيابه مشبعة ببرادة الحديد وغباره، صورة قدّمته لنا ليس حدادًا إفرنجيًّا وإنّما “صائغ الماز”، لا بل “ألمازة” متلألئة لا تنكسر، تفيض صُدقًا وتحدّيات ومواقف وثقة بمستقبل آمن.
وبعد، لم يبتعد علي أيوب مرّة عن ثقته بالاشتراكيّة، ولا بل الشيوعية، كان على يقين بما قاله خروتشوف و”صادق” عليه بخبطة من حذائه من على منبر الأمم المتحدة، بأنه واثق من تحقيق الشيوعية ثقته بشروق الشمس غدًا. ولم يبتعد علي أيوب كذلك عن فلسطين، وكان يحسب أنّ تحريرها، كما تحقيق الاشتراكية “قاب معركة أو معركتين” لا أكثر.
يبدو علي أيوب، وكأنّه لا يحتاج تاريخًا، فتاريخه على امتداد تواريخ غيره مِنَ الشهداء، كل الشهداء، لانّه يحكي جوهرًا مجردًا خارج التداول والتساؤل. لم تعد الشهادة تكرارًا للألم.
كان موت الحزبيين، كل الحزبيين، في تراخي أحلامهم، حيث ظلت هذه الأحلام، ترقّ وتنكسر. فالأرجح أن تحرير فلسطين يغدو كما الاشتراكية أبعد عامًا بعد عام. أما حادث استشهاده فكان “حادث الرحمة” في أمانة علي أيوب لمواقفه، وفي أمانته لقناعته، وفي أمانته للحياة، حتى وهي في شراسة وقاسية عليه.
عرفنا في آخر الكتاب/ المرويّة أنّ علي أيوب ترك في ما ترك من ذرية طفلة اسمها خديجة، والأعمال بالنيات، من محجة الكتابة التاريخية،وهي بذلك تبقى على حد البراءة الشخصية والسياسية.
ننتظر إطلاق الكتاب بفرح الأهل في عرس الابن “الوحداني”، لن ندع لخديجة أنْ تفرح بإطلاق كتابها أكثر من فرحنا به. ولنجعل من الفرح بالكتاب ترياقًا شخصيًا، ترياقًا جنوبيًّا، ترياقًا لبنانيًّا. وأنْ نرى في بُعدنا عن تكريمه، تقصيرًا وقصورًا وهفوة وحتى خطيئة، وأنْ لا نبقى على جهالة ومكابرة، شأن ذلك الإيراني الذي سُئِل مرة: لمذا تلفظون القاف غينًا، والغين قافًا، والذال زينًا. فأجاب: استقفر اللالله من يغول هازا!!!!!! الله من يغول هازا!!!!