كتب واصف عواضة:
أذكر أن أول زيارة قمت بها للقاهرة كانت عام 1981،وقبل أيام من اغتيال الرئيس أنور السادات في السادس من تشرين الأول .
المهم أنني انتقلت ورفيقي في الزيارة من المطار الى قلب القاهرة بسيارة أجرة ،وكان من الطبيعي أن نستطلع خلال الطريق معالم المحروسة من السائق “الظريف” الذي كانت تعليقاته توحي بظرف المصرين بشكل عام .
على نهر النيل عبرنا “كوبري التحرير” حيث يستقبلك تمثال ضخم لشخصية ترفع يدها علوا.سألت السائق عن صاحب التمثال فرد قائلا:ده تمثال سعد باشا زغلول..
ولكن لماذا يرفع يده بهذه الطريقة؟
سألت، فرد السائق على الفور ضاحكا:”ده يا بيه بيقول:ما فيش فايدة يا مصر..
ضحك السائق وضحكنا وتابعنا سيرنا..ولكن بعد سنوات عرفت أن عبارة سعد زغلول ذهبت مثلا عند المصريين ،حيث يروى أن الباشا كان على فراش المرض والى جانبه زوجته “صفيّة” تتنادم معه في أوضاع مصر ،فقال لها عبارته الشهيرة :ما فيش فايدة ..غطّيني يا صفية!
اليوم كلما سألني سائل عن أحوالنا في لبنان ،وكيف أن الناس مخدّرة ولا تنزل الى الشارع لتقلب المشهد المأساوي ،أتذكر سعد زغلول وعبارته الشهيرة :ما فيش فايدة ..غطيني يا صفية!
طبعا ليست هذه دعوة لليأس والإحباط ،لكن في الحقيقة ،الواقع ينبئ بأنه “ما فيش فايدة ” من نزول الناس الى الشوارع لأسباب عدة.
أول الأسباب وأبرزها أن سبعين أو ثمانين بالمائة من الناس ما زالوا على دين ملوكهم ،وبينهم من ينزل الى الشارع ويغلق الطرق ويعتمد التخريب أحيانا سبيلا بزعم الاحتجاج على الحالة الراهنة.أما البقية الباقية من “الشعب العنيد” فتضم عشرة بالمائة من “المرتاحين” الذين لم تتأثر معيشتهم ،والعشرة الأخرى لا حول لها ولا طول بعدما يأست من الاحتجاج وبات همها في ترتيب شؤونها اليومية من المأكل والمشرب والتفتيش عن الحاجات الضرورية لكي تستمر في العيش،شأنها شأن الثمانين بالمائة الآخرين.
أساسا الشعب اللبناني المسحوق بالأسعار “مش فاضي”ينزل الى الشارع للاحتجاج على الأوضاع .هو أساسا في الشارع يوميا ،ولكن في طوابير الانتظار على محطات المحروقات وأسواق الخضار والفواكه والسوبرماركت والصيدليات والمستشفيات وغيرها،وعليه لا وقت لديه للاحتجاج .ربما هي سياسة ذكية من أصحاب الأمر والنهي.أما الذين “يغردون” كالطيور عبر الشاشات ووسائل التواصل من أمثالنا ،فهم في واد والناس في واد آخر.همنا في التفاصيل التافهة للحكومة ،وهمّ الناس في حبة الدواء وحليب الأطفال وصفيحة البنزين ،الى آخر المنظومة المملة.
سبق للناس أن نزلت الى الشارع منذ 17 تشرين عام 2019 ،وهو ما أطلق عليه إسم “ثورة”،ثم تبين لهم أن معظم الثوار ليسوا أهلا لهذه المهمة الشريفة،بعدما تسلق الكثير من الفاسدين “صهوة الثورة” ،وبينهم سياسيون ونواب ورجال أعمال وأكاديميون وأصحاب مؤسسات إعلامية وصحافيون مهنتهم التجارة من الأساس وليس الصحافة.وكان من الطبيعي أن يرى الناس الشرفاء والطيبون كل هذه المشاهد ،ويصيبم القرف واليأس والإحباط.
وفي الخلاصة ثمة من لا يزال يسألك يوميا:يا أخي ..لوين رايحين؟
وأنت بجبروتك العظيم وبجهلك لعلم الغيب تجيب:يا أخي نحنا رُحنا وخلصنا..ما فيش فايدة.غطيني يا صفية!
ربنا لا نسألك رد القدر ،بل نسألك اللطف فيه..
زر الذهاب إلى الأعلى