سياسةصحف

المطران جورج خضر: مؤسّس اللاهوت العربيّ حول فلسطين

 

 خريستو المر*- صحافة- الأخبار

 

(لا يجوز أن يموت أصدقاؤنا هناك كالعصافير)

 

 

تطرّق المطران جورج خضر مراراً إلى القضيّة الفلسطينيّة منذ الستّينيات، وجمعت مقالات له حول الموضوع في كتاب بعنوان «فلسطين المستعادة» (1969)، وكتاب آخر عن القدس (2003) قدّم له محمود درويش؛ ولا تكفي مقالات في تحليل أثر المطران جورج خضر على الفكر المسيحيّ العربيّ، وإن تناولنا لاهوت الحرّية لديه في مقالة سابقة فهنا نتناول بعضاً من رؤيته لفلسطين كما تتّضح في مقالاته في السنوات العشرين الأخيرة.

الأُسس اللاهوتيّة والخُلُقيّة
رفض الظلم هو الأساس الخُلُقي لدى المطران خضر، فـ«الموضوع الفلسطيني عندي موضوع خلقي أساساً… قلتها منذ سنوات في المحافل المسيحية في الغرب. قلت: “إسرائيل حبل بها بالإثم وولدت بالخطيئة”. هناك إذاً رفض في العمق روحي لهذا الكيان، رفض للظلم ولا مصالحة والظلم».
ولكنّ قلبه دائماً على الإنسان أوّلاً: «من لا يبالي بالمقدّسات لا قدسيّة فيه، والقدسيّة الأولى ليست للأماكن الدينيّة، ولكن لشعب فلسطين»، فشعب فلسطين «هو المَقدِّس الحيّ لله. الهدف الأساسي لموقفنا الفلسطيني لا ينحصر في استعادة الأرض. نحن وراء استعادة الإنسان وشرفه».
وتبقى انطلاقات المطران خضر من إيمانه المسيحيّ في الأساس: «لا أستطيع أن أعزل دم فلسطين عن دم يسوع. أنا مع فلسطين الجريحة لأني آتٍ من جنبه»، و«ليس هناك ما يسمى بـ”دار المسيحية”؛ هناك دار المسيح فقط، التي يكوِّنها بعضٌ من جماعته وبعضٌ من غير جماعته. من أجل ذلك يكون العراق وتكون فلسطين داراً للمسيح، وإن كانت الضحايا فيها مسلمة بالدرجة الأولى. كلُّ دم مُراق بسبب من ظلم واحدٌ مع دم المسيح». ولهذا «إذا هدأت غزة قبل صدور هذه الأسطر أو هدأت في الأيام المقبلة يجب أن نفهم أنّها مسيح جماعيّ… ومن لا يبالي بالمقدسات لا قدسيّة فيه، والقدسيّة الأولى ليست للأماكن الدينيّة، ولكن لشعب فلسطين».

ولهذا ناهض التسويغ اللاهوتيّ لوجود الكيان الإسرائيليّ، فقبول دولة الاحتلال هو قبول بـ«الطرح الصهيوني الذي يسمّر وعود الله على أرض، بعدما حرّرنا المسيح من الأرض والتراب وكل ما يتعلق بالملك فكان هو المليك والمملكة ومطرح المواعيد وغاية المواعيد». ولهذا «أنا لست مع الدولتين إلى الأبد. لست مع الثنائية. مشتهى قلبي أن أرى فلسطين مستعادة».
وإذ يرى خضر أنّ الله حاضرٌ في شهادة الدم في جنين «بسبب التضحيات المذهلة واسمها الشامل الرمزي، جنين، نزل الله كلّه على الأرض الفلسطينية»، فهو يستشرف زوال إسرائيل بسبب كثرة ظلمها نفسه الذي يستدعي مقاومتها: «أنا لا يسرّني أن الإسرائيليين فقدوا عقولهم هناك وسلك عسكرهم مسلك الذين فقدوا كلّ إنسانية فيهم. وهذا – في ميزان الحكمة التاريخية – يؤذن بانهيار هذا الكيان… بسبب من هذا السقوط الأخلاقي الذي لا اسم له في قاموس الخطيئة يتضح لي أن الحقيقة الساطعة الإلهية قد نبذت إسرائيل لأنّك لا تستطيع أن تظلم إلى الأبد وإذا ظلمتَ طويلاً لا بد لك أن تنفجر في هذا العالم قبل أن تحرقك العدالة الإلهية».

فلسطين قلب العرب
ولا يكتفي خضر بالنظر إلى كيان الاحتلال بكونه خطراً على الفلسطينيّين وإنّما يراه أيضاً خطراً على لبنان لأنّه «إذا كانت حتى الآن لم تقبل بنشوء دولة فلسطينية لماذا تريدون أن تقبل باستقلال لبنان وسيادته؟»، وهو يراه خطراً على العرب جميعاً، ففلسطين قلب العرب، لهذا «لا يجوز لأي حكم عربي أن ينطوي على نفسه وأن يفتش عن سلامة قطره. في حضرة الله لا وجود لعربي لا يبالي بالقدس».

ضرورة التعاضد العربيّ مع الفلسطينيّين
في سياق هذه الرؤية، تأتي دعوات المطران خضر للتعاضد العربيّ مع فلسطين، فكلّ تديّن ينبغي أن يُتَرجمَ نصرة للعدالة، لهذا يكتب: «أمنيتي أن كل الذين يقيمون أسبوع الآلام بدءاً من غد يجب أن يدمجوا المسيح مع أهل جنين وأن يرجوا ظهور قدس جديدة يسوسها الحق. لا مصالحة بلا حقّ وسقوط العنجهيّة واستئثار شعب واحد بالدنيا…وإذا فهم العرب دخول المسيح القدس رمزاً فلا معنى لأيّ تديّن لهم إن لم يستنفروا قواهم جميعاً لنصرة العدالة فيها… أيّة قيامة للعرب في جو التخاذل العميم؟… أن يتمسك العرب بكل أموالهم وكل منافعهم وكل اتصالاتهم يعني أنهم لا يحبون أن يترجموا أقوالهم فعلاً تغييرياً… ومثلما أتعزّى بصمود أهلنا في فلسطين – وهذا يبدو عندهم قناعة وقراراً – أحزن لتقاعس العرب…»، و«هل يرضى الله عن لحم الأضاحي أم عن القلوب المبذولة استنفاراً وعملاً ومشاركة في سبيل الذين يقدمون وحدهم أجسادهم أضاحيَ للحق؟»، فببساطة وعمق يرى أن «ليس لنا وجود أمام الله والتاريخ إن لم نحافظ على كرامة الفلسطينيين».

كرامة الفلسطينيّين في لبنان
ولا ينسى خضر وضع الفلسطينيّين في لبنان، ويحثّ المسيحيّين على رفع الصوت لرفع هذا الغبن عنهم، فـ«ماذا يمنع أن يتمتع الفلسطينيون بكل كرامة وكل حرية وحق العمل في الوطن اللبناني؟». «كنت أتمنى أن أسمع من غير جهة أنه يجب رفع الظلم والفقر عن أهل المخيّمات وأن يلحّ المسيحيون على ذلك».

ضرورة زوال الصهيونيّة ورفض التطبيع
ويرى المطران خضر أنه «لا تنتهي القضية بترتيب البيت العربي في فلسطين مصغّرة، خجولة، هزيلة. المسألة ليست في إنشاء هذا الكيان، ولكن في اعتراف الفلسطينيين أو عدم اعترافهم بالدولة اليهودية. إذا تضمّن إنشاء الدولتين تبادلاً دبلوماسياً بينهما انتهت القضيّة الفلسطينيّة. لإسرائيل أن تبقى على مستوى الواقع لا على المستوى الحقوقي (de jure) ليس فقط لأننا نتمنى أن تتوحّد كل أرض فلسطين التاريخية، ولكن لأننا ننكر الإيديولوجية الصهيونية». فبالنسبة إلى الصهيونيّ «مضمون التطبيع عنده أن يبقى مسيطراً أي أن رغبته الحقيقية الظاهرة في كل النصوص الصهيونية أن يسخّرنا لمجده، لتفوّقه، لاستغلاله إيانا ويستعمل كلمة حضارية “التطبيع” وهي كلمة حق عنده يراد بها باطل. هناك حالة يمكن التطبيع معها هي حالة سقوط الفلسفة الصهيونية… فإذا تهاوت هذه الفلسفة نكون أمام مشكلة تعايش شعوب تدين بالديموقراطية وترغب صادقة في أن تعيش متساوية في الكرامة».
هذا الموقف الاستعلائيّ الاستغلاليّ القاتل هو في قلب أسباب مواجهة خضر للصهيونيّة لأنّه موقف استلاب للإنسان، «فإن لم تسقط الصهيونية تكون الدولة العبرية على موقفها الإقصائيّ الصميميّ للعرب. وتكون العلاقات بيننا وبينها حلولاً ترقيعيّة هي نهايتنا نحن على المستوى الحضاري والإنساني ولو بقيت على الخريطة رقعة تسمى فلسطين. والهزالة التي تكون عليها فلسطين هذه ستنتشر سرطاناً في كل الجسم العربي». لهذا نحن في حالة حرب و«حربنا مع الصهيونية هي حرب على عقدة التفوق للاستيطان والتوسع».

النضال والجهاد في مسعى حرّية
يقضّ مضجع المطران القتل الذي يمارسه الاستيطان والتوسّع بحقّ العُزّل والصمت حياله: «هناك، في الأراضي المقدّسة، يموت الأطفال ويقتلهم هيرودس جديد ويمعن في التقتيل وليس في الدنيا من يبكي الأطفال كأنهم ليسوا من طراوة هذا الوجود… لا يريد العالم حقاً أن يكون الفلسطيني حراً في هذه البقعة الصغيرة التي تُركت له من بلده. ويعلموننا حقوق الانسان. أي إنسان؟ أيريدون أن يكبّوا أهل فلسطين في الصحراء أو ما وراء البحر؟ كيف أحيا أنا والظلم عميم؟».
لهذا كان النضال ضرورة حياة وشهادة للحياة والإيمان: «من يحاسب هذا “الوحش الطالع من الهاوية” الذي انقضّ على أهل نابلس ورام الله وبيت لحم وسواها. أي جاورجيوس ينقذ فلسطين العذراء من التنين؟ ستقوم فلسطين ليس فقط بمقادسها ولكن بمجاهديها الميامين». فترى المطران خضر يقف بخشوع وتصميم أمام الشهداء: «سلامٌ على أجساد أحبائنا المطهّرة في فلسطين كلها. إخواننا هناك مدعوّون إلى المجد. وسنناضل مما أوتينا من وسائل لتحقيق هذا المجد».
فتكون شهادة الدم خطاباً إلهياً ودفاعاً عن الكرامة الإنسانيّة، فـ«إذا كانت كرامة العرب يصنعها الشباب الفلسطيني بدمه فكل شيء آخر يأتي شهادة لهذا الدم أو لا قيمة له. ما من ضحية أُهرقت إلّا واقتبلها الله خطاباً بينه وبين أحبّته في الأرض». وما كانت شهادة الفلسطينيّين إلّا مسعى تحرّر، فهم «يشهدون بتمردهم للإنسان العظيم الطالع من الحرية».

خلاصة
ويبقى المطران جامعاً في قلبه بين يسوع ووجوههم، ناشداً الحرّية للفلسطينيّين بالنضال تأكيداً للحياة الحرّة، موحِّداً بين نضالهم ونضال كلّ معذّبي الأرض من أجل الكرامة والحرّية: فـ«منذ سنوات كثيرة وقبل حرب لبنان كنت قد كتبت: “المسيح اليوم لاجئ فلسطيني”… إن السيّد تماهى ومستضعفي الأرض. اليوم أذهب إلى أبعد من ذلك لأقول: إنّ المسيح هو الولد الذي حمل الحجر في الانتفاضتين وألقاه. كنّا نسمي هذه الحركة ثورة الحجارة. كانت هذه رمزاً للحياة الجديدة الطالعة من طلب الكرامة ليس لفلسطين فقط، ولكن لكل المعذّبين في الأرض…الحجر… كان رفضاً للغطرسة وكان تأكيداً للحياة الجديدة الآتية لأهلنا أكانوا في الأراضي عندك أم في الناصرة أو القدس أو بيت لحم أو بيت جالا وما إليها جميعاً».
فضلُ خضر في تأسيس لاهوت مسيحيّ عربيّ حول فلسطين أكبر من أن يُشكر عليه، ونحو هذه الحياة الجديدة الآتية التي نتوق إليها نمتدّ بالإيمان والحبّ والفكر والنضال والحرّية والمساواة.

* كاتب وأستاذ جامعي

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى