الحوار نيوز – صحافة
تحت هذا العنوان كتب وسام كنعان في صحيفة الأخبار:
في عام 2010، أصيب الممثل اللبناني عبدالله الحمصي (1937ــــ 2023) بنكسة صحية استدعت إجراء أربع عمليات جراحية له كانت كلفتها عالية ولم يكن يملك ليرة واحدة من المبالغ المطلوبة. حينها قال في حديث صحافي له مع «الأخبار»: «لم أعان من ظلم في حياتي مثلما عانيت من ظلم الدولة. منذ سنين ونحن ننادي بضمان الفنانين الذين لن يشكل عددهم المحدود أي عبء على الدولة، وها هم يموتون الواحد تلو الآخر على أبواب المستشفيات. ألا نستحق بطاقة صحية بعد هذا العمر الطويل من العطاء الفني وإدخال البسمة إلى قلوب الناس؟». بهذه الهيئة أفاض «أسعد» عما يجول في خاطره وعبّر عن وجعه، من دون تخلّيه عن فطريته، أو حتى اسمه الشهير الذي عُرف به طيلة مشواره الفني، نسبة إلى أدواره في مسرحيات فرقة «كوميديا لبنان» مع أبو سليم الطبل (صلاح تيزاني) منذ نهاية الخمسينيات. أمس، أسدل الرجل الستار على رحلته الحياتية، ومضى إلى غير رجعة. مات أسعد الطيب الدافئ الذي يميل إلى الخير ومناصرة المظلوم من دون أن يتمكّن من فعل شيء لبلاده التي شهد على ترنّحها وكان يراها كلّ يوم تتدحرج بتسارع مهول نحو الهاوية. طبعاً لم يتحقق له ولغيره من أبناء جيله ولو ملمح بسيط من طموحاته بالرعاية الحكومية للفنان!
بدايات الراحل تستحق أن تكون نموذجاً يُحتذى به ليعرف الجميع أن المستحيل لم يُصنع لهذه البلاد. في عائلة تتكوّن من 10 أولاد في حي الزاهرية في مدينة طرابلس، ترعرع الراحل وعلى خشبة مسرح «مدرسة الزاهرية الرسمية للصبيان»، جسّد دوره التمثيلي الأول عندما كان يبلغ الخامسة من العمر. ثم صار بمثابة لازمة أساسية في كلّ العروض المدرسية لتتفتّح بعدها شقاوته، ويجرّب تعليم الأولاد تقليد شخصيات معروفة، ويجبرهم على التجمّع لتقديم عروض مسرحية على أسطح البيوت، إلى أن انتبه إليه شقيقه وشعر بموهبته الصريحة، فاصطحبه إلى فرقة «النفير» في كشافة «الجراح» التي كانت بقيادة صلاح تيزاني. وفي عام 1957، أنشأ الفنانان فرقة «كوميديا لبنان» لتكون بمثابة منبر حرّ يقدمان عليه مع بقية زملائهما عرضاً سنوياً شعبياً يحكي بلغة «مسرح الساعة العاشرة» تقريباً هموم البلاد وحال العباد، بأسلوب حكائي بسيط، وتشكيل مسرحي سهل، وصوغ فني شعبي، وأداء مترف بالفطرية، ومسيّج بالعفوية المطلقة. وتلك كانت نقاطاً مشعّة في هذه التجربة، سرّعت وصولهم إلى قلوب الناس ليشكّلوا عبر الزمن جزءاً من ذاكرتهم المتّقدة التي تبلسم ولو قسطاً صغيراً من أوجاع الحروب والنكسات المتلاحقة!
أثناء تقديم مسرحية «المسافر»، كان بين الجمهور عوني المصري وعبد الكريم عمر اللذان كانا من الرعيل الذي نشر الفن اللبناني في البلاد العربية. دلفا إلى الكواليس بعد انتهاء العرض، وقدّما نصيحة واحدة للفرقة: «اذهبوا إلى تلفزيون لبنان». المحطة التي افتتحت أبوابها للمواهب الشابة آنذاك، استقبلت أعضاء الفرقة بمحبة، وتركت لهم الفرصة لتقديم ما يريدون، وحازت إعجاب اللجنة المسؤولة عن الموضوع. ومن هناك صار لبنان يعرفُ على نطاق واسع «أسعد» و«أبو سليم» وبقية المجموعة التي قدّمت عروضاً متتالية قبل أن تتمكّن من نيل فرصة تقديم عروض تلفزيونية بالشخصيات المحبّبة نفسها تحت مسمى فرقة «أبو سليم الطبل»، الاسم الرسمي الذي رافق أعمال الفرقة. ومع كل تلك النجاحات والحظوة التي حقّقها، كان صعباً على عبدالله حمصي إقناع عائلته ومحيطه بمهنته، وربما كان لذلك مساحة إضافية في صقل شخصيته، إذ ترك المدرسة باكراً والتحق بالشغل في محل والده الذي يبيع القشدة، ولم ينتبه لما فاته من وعي ونضج فني، وتراكم ثقافي، تصنعه القراءة والعلم، إلا عندما أزفت الفرصة الأهم في حياته واستدعي إلى المدرسة الرحبانية عام 1967 في فيلم «سفر برلك»، قبل أن يخوض فيها تجربة ثانية في فيلم «بنت الحارس» عام 1971 بدور الحارس صالح إلى جانب فيروز ونصري شمس الدين! حقّقت له التجربتان دعماً نفسياً كبيراً وثقة عالية، لكنه قرر أن يعوّض ما فاته من علم وراح يقرأ ما يتاح له من أمّهات الكتب وخصوصاً علم النفس، ليتمكن من فهم الشخصيات التي يؤديها نفسياً قبل أي شيء، ويحاول صناعة تاريخ لها ولو لم يكن موجوداً على الورق! أما البطولة المطلقة الأولى فكانت في عام 1973 عندما رُشح لمشاركة سيلفانا بدرخان بطولة مسلسل «دويك يا دويك» (كتابة أنطوان غندور وإخراج باسم نصر لـ«تلفزيون لبنان»).
الأرشيف يعجّ بالمنجز وفيه أكثر من 1700 حلقة تلفزيونية، وللمسرح ما يزيد على ستين عرضاً، و5000 حلقة إذاعية كلّها أحرقتها نيران الحرب التي أصابت الرجل بعطب كبير، لم يشف منه إلى أن غادر هذا العالم، خصوصاً عندما صار يفقد رفاق دربه واحداً تلو آخر، ولم تستطع «فرقة الفنون الشعبية» التي أسّسها في طرابلس في تخليصه من هذه الأحمال الثقيلة رغم أنها كانت فرقة ناشطة تقدم أمسية فنية أسبوعية وجرّبت الشغل على المسرح التربوي!
* يصلّى على جثمانه اليوم الأربعاء عقب صلاة الظهر في «المسجد المنصوري الكبير» ويوارى الثرى في «مدافن باب الرمل». تقبل التعازي قبل الدفن في منزل الراحل الكائن في أبي سمراء (بناية الحمصي ــ نزلة القلعة ــ طرابلس). كما تُقبل التعازي يومي الثاني والثالث في قاعة المؤتمرات في طرابلس (شارع المئتين) من الساعة الخامسة عصراً حتى السابعة مساء.