سياسةعاشوراء

عاشوراء والحسين.. وثقافة الاستشهاد (واصف عواضة)

 

كتب واصف عواضة – خاص الحوار نيوز

عندما نتحدث عن الحسين تحضرنا الشهادة بكل معانيها العظيمة، وهو الذي عاش أجواء الشهادة وقضى فيها ،وعلّم بشهادته الأجيال درسا نحفظه حتى اليوم  ،حتى باتت صرخة “يا أبا عبد الله” شعارا للمجاهدين عند كل صولة وجولة في وجه الطواغيت.

لقد عاش الحسين أجواء الشهادة وهو طفل صغير حيث كان المسلمون الأوائل يتساقطون في سبيل الدعوة المحمدية ،دعوة جده رسول الله (ص).

وكُتبت الشهادة لوالده الخليفة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بضربة غادرة في مسجد الكوفة عند صلاة الفجر، واستشهد عمه جعفر بن أبي طالب، المعروف بـ(جعفر الطيار) في معركة مؤتة، أولى معارك الفتح الإسلامي خارج الجزيرة العربية على عهد النبي ، واستشهد أخوه الحسن بدس السم له بعد تبديد جيشه المقاوم للسلطة الأموية، بالمناورات والمساومات،واستشهد أخوه العباس وولداه علي الأكبر وعبد الله الرضيع بين يديه في كربلاء ،كما استشهد إبن أخيه القاسم بن الحسن، واستشهد معه من بني عمومته وأهله وجميع أصحابه الذين زاد عددهم على السبعين في معركة واحدة وأمام أنظاره في واقعة غير متكافئة.

 

ومع ذلك لم تكن ثورة الحسين طلبا للثأر والانتقام،وهو الذي تعلم التسامح من جده رسول الله يوم دخل مكة ،ومن أبيه علي بن أبي طالب وهو يصارع سكرات الموت.

كان الحسين شابا ممتلئأ بالحماسة والعنفوان في الخامسة والثلاثين من العمر ،عندما وقف وأخوه الحسن فوق جسد والده وهو طريح الفراش جراء ضربة الخارجيّ عبد الرحمن بن ملجم ،وسمع الحديث الذي دار بين أمير المؤمنين وخليفة المسلمين،حيث جيء بالقاتل مكتوفا وقد أقبل به الإمام الحسن قائلا: “هذا هو عدو الله وعدوك ابن ملجم، قد أمكن الله منه وقد حضر بين يديك”.

فتح الإمام عليّ عينيه ونظر إليه وهو مكتوف وسيفه معلق في عنقه، فقال له بضعف وانكسار صوت ورأفة ورحمة:

“يا هذا لقد جئت عظيماً..، وخطباً جسيماً، أبئسَ الإمام كنت لك حتى جازيتني بهذا الجزاء؟ ألم أكن شفيقا عليك وآثرتك على غيرك وأحسنت إليك وزدت في عطائك؟ ألم أكن يقال لي فيك كذا وكذا ،فخليت لك السبيل ومنحتك من عطائي؟ وقد كنت أعلم أنك قاتلي لا محال، ولكن رجوت بذلك الاستظهار من الله تعالى عليك يا لكع ،فغلبت عليك الشقاوة فقتلتني يا شقي الأشقياء”.

 يروى أنه دمعت عينا ابن ملجم وقال: “يا أمير المؤمنين، “أفأنت تنقذ من في النار”، قال له: صدقت. ثم التفت إلى ولده الحسن وقال له: “أرفق يا ولدي بأسيرك، وارحمه، وأحسن إليه وأشفق عليه، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أم رأسه وقلبه يرجف خوفاً وفزعاً؟

 

فقال له الحسن: “يا أبتاه قد قتلك هذا اللعين.. وأفجعنا فيك وأنت تأمرنا بالرفق به؟

 فقال: “نعم يا بني، نحن أهل البيت لا نزداد على الذنب إلينا إلا كرما وعفواً. بحقي عليك، فأطعمه يا بني مما تأكله، واسقه مما تشرب، ولا تقيد له قدما ولا تغل له يدا، فإنْ أنا مت فاقتص منه بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة، ولا تحرقه بالنار ،ولا تمثل بالرجل فإني سمعت جدك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: “إياكم والمثلة ،ولو بالكلب العقور”، وإن أنا عشت فأنا أولى به بالعفو، وأنا أعلم بما أفعل به.

هذه هي الأخلاق التي تخلّق بها الامام الحسين ،وهو بلا شك قرأ رسالة أبيه الى واليه على مصر مالك الاشتر التي يوصيه فيها بالناس فيقول للوالي:

“أشعر قلبك الرحمة للرعية ، والمحبّة لهم ، واللطف بهم ، ولا تكونن عليهم سُبعاً ضارياً تغتنم أكلهم ، فإنّهم صنفان : إمّا أخ لك في الدين ، أو نظير لك في الخلق ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من ولاك !  فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك.

بهذه الأخلاق العالية ،لم يخرج الحسين من المدينة معلنا الثورة ،بل خرج لحماية الثورة المحمدية من الضياع والاندثار على يد حاكم جائر فاسد مثل يزيد بن معاوية .هذه الثورة المحمدية التي يجتمع الكثير من المفكرين والمستشرقين على أنها كانت أهم ثورات التاريخ ،بل يقول بعضهم إنها الثورة الأولى في التاريخ ،لأنها غيرت المفاهيم والنظم والقيم السائدة ،وبنت أمة أغنت التاريخ بحضارتها ومبادئها وقيمها،وهذه هي الوظيفة الحقيقية لأي ثورة .وقد خرج الحسين لحماية وصيانة هذه الثورة ،وهو القائل:”لم أخرج أشرا ولا بطرا ،بل خرجت للاصلاح في أمة جدي رسول الله”.

وهنا كانت مهمة الحسين ربما أكثر صعوبة من مهمة جده .ونحن هنا لا نفاضل بين الحسين وجده ،فالرسول هو الأصل والحسين هو الفرع، وإنما نقصد أن إصلاح الثورات عادة يكون أكثر صعوبة من القيام بالثورة،وقد واجه أبوه علي بن أبي طالب هذه الحالة وقتل،وواجه أخوه الحسن هذه الحالة وقتل ،وهو أيضا واجه نفس الحالة وقتل.

 خلاصة القول،

 إن الحسين خرج لإصلاح الثورة المحمدية وحمايتها بالتغيير ،وكان يعرف سلفا أنه سيتعرض للقتل ،لكن مهمته كانت فوق موازين الحياة والموت،وكان ميزان الشهادة نصب عينيه ،فهكذا رسالة تستحق أن يسقط المرء شهيدا في سبيلها.وهذه الثقافة حفظها ويحفظها المجاهدون في سبيل القضايا العادلة على مرّ الزمن..والنماذج حاضرة اليوم .

وهذا هو الحسين في العاشر من المحرم وفي أرض كربلاء يرفع كفيه إلى السماء ويقول:

إن كان دين محمد لا يستقم

إلا بقتلي يا سيوف خُذيني  

 

..ويبقى أن التاريخ لا يرحم،  

فأين محمد بن عبد الله في التاريخ،وأين أبو لهب وأبو سفيان وغيرهم؟

اين علي بن أبي طالب ،وأين معاوية بن أبي سفيان؟

أين الحسين بن علي في التاريخ وأين يزيد بن معاوية؟

ثمة قصيدة جميلة تقارن بين علي ومعاوية،وهي للشاعر السوري الراحل محمد المجذوب ،وهو كاتب وداعية إسلامي كبير من مدينة طرطوس،وله نحو خمسين مؤلفا في الفكر الإسلامي والإنساني والأدب،وهو بالمناسبة مسلم سنّي ،لا شيعي ولا علوي،وقد عاش أكثر من خمسين عاما في المملكة العربية السعودية . وقد نظم قصيدته بعد أن زار ضريح الامام علي في النجف وضريح معاوية في دمشق ،ولاحظ الفارق الكبير بين الضريحين .

 

يقول المجذوب في قصيدته:

 

أين القصور أبا يزيد ولهوها

والصافنات وزهوها والسؤددُ

 

أين الدهاء نحرت عزته على

أعتاب دنيا زهوها لا ينفدُ

 

آثرت فانيها على الحق الذي

هو لو علمت على الزمان مخلدُ

 

تلك البهارج قد مضت لسبيلها

وبقيت وحدك عبرة تتجددُ

 

هذا ضريحك لو بصرت ببؤسه

لأسال مدمعك المصير الأسودُ

 

كتل من الترب المهين بخربةٍ

سكر الذباب بها فراح يعربدُ

 

خفيت معالمها على زوارها

فكأنها في مجهل لا يقصدُ

 

والقبة الشماء نكس طرفها

فبكل جزء للفناء بها يدُ

 

أأبا يزيد وتلك حكمة خالق

تجلى على قلب الحكيم فيرشدُ

 

أرأيت عاقبة الجموح ونزوة

أودى بلبك غيّها المترصدُ

 

فاسأل مرابض كربلاء ويثرب

عن تلكم النار التي لا تخمدُ

 

أرسلت مارجها فماج بحرّه

أمس الجدود ولن يجّنبها غدُ

 

والزاكيات من الدماء يريقها

باغ على حرم النبوة مفسدُ

 

أأبا يزيد وساء ذلك عثرة

ماذا أقول وباب سمعك موصدُ

 

 

 

 

ثم ينتقل الى وصف النجف فيقول:     

قم وارمق النجف الشريـف بنظرة

 يرتد طرفك وهو باك أرمدُ

 

تلك العظــام أعز ربك قـدرها 

فتــكاد لولا خوف ربك تعبدُ

 

ابدا تباركــها الوفود يحثــها

 من كــل حدب شوقها المتوقدُ

 

نازعــتها الدنيا ففزت بوردها 

ثم انقـضى كالحـلم ذاك الموردُ

 

وسعى إلى الأخرى فخلد ذكرها

 في الخالديـن وعطف ربك أخلدُ

 

وختاما

تعيش شهادة الحسين في كربلاء لأكثر من أربعة عشر قرنا ،ينهل من معينها المظلومون في كل عصر من عصور الظلم ،على شعار:”هيهات مِنّا الذِلّة” . وهي ليست ثقافة الموت ،بل هي ثقافة الحياة المتجددة.وهذا مرقد الحسين في كربلاء يؤمه سنويا عشرات الملايين من كل أقطار العالم.

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى