كتب واصف عواضة – خاص الحوار نيوز
مرة جديدة تستوقفنا عاشوراء ،وتطرح علينا السؤال الطبيعي والمحيّر:كيف لحدث مضى عليه أربعة عشر قرنا من الزمن، ويرى البعض أنه كان صراعا على السلطة ،أن يعيش بحرارة لا توصف كل هذا الزمان ،وأن يملأ حنايا العقل والعاطفة، من دون أن تفتر حياله الهمم والمُهج والعقول والقلوب؟
والرد الطبيعي على هذا السؤال أن هذا الحدث لم يكن معركة أو حربا أو حادثة عابرة في تاريخنا ،بل كان ثورة إنسانية كبرى ،بكل ما تعني كلمة الإنسانية،في السياسة والاقتصاد والثقافة وعلم الاجتماع .
وهي لم تكن فقط من حيث أهدافها ثورة إسلامية نابعة من مبادئ هذا الدين الحنيف الذي جاء به رسول الله محمد بن عبد الله ،بل كانت أوسع من ذلك بكثير،لتطال البشرية جمعاء، وإلا كيف نفسر هذا الانسجام والاستلهام الواسع لمبادئها خارج الدوحة الإسلامية ؟
لطالما سألني بعض الأصدقاء:
اذا كانت ثورة الحسين ثورة انسانية شاملة،فلماذا يحتكر المسلمون الشيعة مناسبة عاشوراء ويحتفلون وحدهم بها سنويا؟
وكنت أجيب دائما: إن تعبير “إحتكار المناسبة” ليس في محله، وكان الأصح السؤال :لماذا لا يحتفل غير المسلمين الشيعة بهذه المناسبة ؟
والحقيقة انه لا يضير المسلمين الشيعة ان يحتفل العالم باسره،شعوبا وأمما وطوائف وإثنيات، بذكرى ثورة الحسين ووقعة كربلاء،من حيث هي ثورة انسانية شاملة ،حيث لا فصل مطلقا بين الدين والإنسان.
أكثر من ذلك ، إن الدين الذي لا تكون غايته الانسان وسعادته هو ليس بدين .فالإسلام هو دين الانسان والانسانية ،قبل ان يكون طقوسا وعبادات، واحيانا بعض الشكليات. وثورة الحسين لم تأت من فراغ ،بل هي قبس من ثورة ذلك الرسول العظيم ، جده محمد بن عبد الله. ولو عدنا قليلا الى حياة الحسين لاكتشفنا ذلك القبس الذي بدأ في المدينة ولم ينته في كربلاء.
ولد الحسين في الثالث من شعبان في العام الرابع للهجرة في المدينة المنورة بعيدا عن مكة المكرمة ارض الآباء والاجداد والكعبة المشرفة.
عاش طفولته الاولى في كنف جده رسول الله وابيه علي بن ابي طالب وأمه فاطمة الزهراء.
شاهد الحسين المسلمين الأوائل مهجّرين مهاجرين بعيدين عن ارضهم ومنازلهم يتحرقون شوقا للعودة اليها ،وعاين الإلفة بين المهاجرين والانصار على قاعدة “انما المؤمنون أخوة في الإنسانية”.
شاهد الحسين جده لا يفرق بين مسلم وآخر مهما كان شكله او لونه وعشيرته ،فقيرا كان ام موسرا،يتعامل معهم سواء بسواء.
لم يكن قد بلغ الخامسة من عمره عندما عاد المسلمون الى مكة فاتحين ،فشهد التسامح الذي ابداه جده الرسول مع الآخرين على قاعدة الأمان الذي اعطاه لهم.
عايش الصبي جده في مكة المكرمة يساوي بين زعيم قريش ابي سفيان والعبد الحبشي بلال بن رباح .وكان من الطبيعي ان يتشرب الحسين في طفولته اعظم حالات المساواة الانسانية.
شاهد الصبي في طفولته كيف يفرض اسلام محمد على الاغنياء ان يعيلوا الفقراء من خلال الزكاة في ارقى حالات العدالة الانسانية.
لم يكن سهلا على الصبي الذي لم يبلغ السنوات الثماني ان يفقد جده وحاضنه الذي انتقل الى الرفيق الاعلى .كذلك لم يكن سهلا عليه ان يتفهم في تلك السن المبكرة تنازل والده عن الخلافة درءا للفتنة بين المسلمين.
عاش الحسين شبابه في ظل الخلفاء الراشدين الذين تعاملوا مع الناس على هدي القرآن الكريم وسنة رسول الله.
عاش الحسين خلافة ابيه بما يحمله الحاكم من صفات الزهد والعدل والانصاف بين الناس. فهذا علي بن ابي طالب الذي يقول “والله ليس لي نصيب بقرص الشعير وفي ولايتي من لا نصيب له بحبة التمر”.فكيف يمكن للحسين في منتصف الخمسينات من العمر ان يرضى او يستسلم لحاكم جائر كيزيد بن معاوية؟
هذا هو الحسين الذي خرج من المدينة رافضا الطاعة ليزيد الذي تحولت الخلافة في عهده الى وراثة عائلية ،خلافا لاسلام محمد بن عبد الله الذي يأمر بالشورى بين المسلمين لاختيار خليفتهم.
لقد خرج الحسين على طاعة يزيد من اجل هذا الاسلام الانساني الذي يساوي بين ابي سفيان وبلال الحبشي ،والذي يمنع على المسلمين ان يكون بينهم فقراء.هذا الاسلام هو اسلام المساواة والكفاية وليس اسلام العبادات فقط .
لم يخرج الحسين على يزيد لأنه تارك للصلاة ولأنه فاسق وفاجر وشارب للخمور فقط ،بل لأنه كان يخاف على الانسان المسلم وعلى اسلام جده في عهد يزيد.وفي هذا الأمر يقول الامام الحسين:”إني لم أخرج أشِراً ولا بطراً ، ولا مُفسِداً ولا ظالماً ، وإنما خَرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جَدِّي محمد صلى الله عليه وآله”.
ويقول ايضا: “مَن رأى سُلطاناً جائراً مُستَحلا لِحَرام الله ، ناكثاً عهده ، مخالفاً لِسُنَّة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغيِّر عليه بفعل ولا قول ، كان حقاً على الله أنْ يُدخِله مَدخَله”.
من اجل هذا الاسلام الانساني خرج الحسين.وبهذا الفهم الراقي يجب أن نقرأ ثورة الحسين،بعيدا عن المبالغات حينا ،والتحريف حينا آخر ،والتزوير أحيانا.
(يتبع)