رأي

ضريبة البنزين المقنّعة: حين تُمَوَّل الدولة من جيوب الفقراء(سعيد عيسى)

 

بقلم د. سعيد عيسى – الحوارنيوز

 

في قرار لافت اتخذه مجلس الوزراء اللبناني الأسبوع الماضي، تقرّر تثبيت أسعار المحروقات على مستويات مرتفعة، رغم تراجع الأسعار العالمية، ما أدّى إلى زيادة فعلية بنسبة 7% على البنزين، و14% على المازوت. هذه الزيادة، التي طالت المستهلكين مباشرة، لم تأتِ نتيجة عوامل سوقية، بل عبر آلية ضريبية غير معلنة، تحت غطاء تمويل منح مالية للعسكريين.

لكن خلف هذا القرار المالي تكمن سياسة ضريبية تمييزية تُعيد إنتاج الظلم الاجتماعي، وتعمّق التفاوتات في بلد يُعاني أصلاً من أحد أعلى معدلات اللامساواة في المنطقة.

 

ضريبة غير معلنة… ولكنها حقيقية

القرار ينصّ على اعتماد أسعار المحروقات السائلة كما كانت في 8 شباط 2025، أي إبقاؤها عند سقف مرتفع بالرغم من انخفاض أسعار النفط عالميًا. وتم إدراج الفارق ضمن خانة المعاملات الجمركية في جدول تركيب الأسعار، ما يعني فعلياً أن الزيادة تُحصّل كضريبة مباشرة من المستهلك، من دون أن تُسمّى كذلك في النص الرسمي.

تُعد هذه الخطوة مثالًا نموذجيًا على ما يُعرف بالضرائب التراجعية، أي تلك التي تطال الفئات ذات الدخل المحدود بنسبة أعلى من الأغنياء، لأنها تُفرض على الاستهلاك وليس على الثروة أو الدخل. ما يجعل أثرها الاجتماعي عميقًا وغير عادل، خصوصًا في بلد يقترب فيه معدل الفقر من 44% (بحسب البنك الدولي، مايو 2024)، وتآكلت فيه رواتب الغالبية العظمى من العاملين.

 

تمويل فئوي على حساب العدالة الاجتماعية

تبرّر الحكومة هذا الإجراء بضرورة تأمين منح شهرية للعسكريين، تتراوح بين 12 و14 مليون ليرة، في ظل تردّي أوضاعهم المعيشية. لكن المفارقة تكمن في أنّ هذه المساعدات لم تُقرّ كجزء من سياسة إصلاحية شاملة لرواتب القطاع العام، بل كاستثناء موجّه إلى فئة واحدة فقط، في تجاهل تام لأوضاع المعلمين والموظفين والإداريين وسائر العاملين في القطاع العام الذين فقدت رواتبهم قيمتها الحقيقية منذ عام 2019.

يطرح اللجوء إلى فرض ضريبة جديدة، بدلاً من البحث عن موارد متاحة، وهذا يطرح علامات استفهام حول أولويات الحكومة وخياراتها التمويلية. لماذا لم يتم استكشاف بدائل لتمويل هذه المنح لا تثقل كاهل المواطنين مباشرة؟ ولماذا يُطلب من المواطنين مجددًا تحمّل كلفة ما يُنظر إليه كتقصير من الدولة في إدارة مواردها وإيجاد حلول شاملة لأزمة الرواتب؟

 

انعكاسات تضخمية تهدد الاستقرار المعيشي

أثر هذا القرار لن يقتصر على سعر البنزين فحسب، بل سيتسرّب إلى معظم السلع والخدمات التي يدخل النقل ضمن كلفتها حتى لو قيل بأننا سنراقب الزيادات التي ستطرأ على السلع والخدمات، فشواهد الماضي لا تبشّر بالخير. كما أن الزيادة على المازوت ستطال بصورة مباشرة قطاع الطاقة المنزلية، حيث تعتمد النسبة الأكبر من اللبنانيين على مولدات الأحياء، ما يلغي أي أمل بخفض تسعيرة الكيلوواط ساعة التي يدفعونها.

وفي بلد سجّل معدل تضخم تجاوز 45% عام 2024، بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، تبدو هذه الزيادة كصبّ الزيت على نار الأسعار. فهي تُعمّق التآكل في القدرة الشرائية، وتُقوّض أي فرصة لالتقاط الأنفاس المعيشية، بدل أن تسهم في تخفيف الأعباء عن المواطنين كما كان مأمولًا من انخفاض الأسعار العالمية.

مقاربة جباية لا إصلاح

اقتصادياً، يُفترض أن تُستخدم الضرائب كأداة لإعادة توزيع الموارد وتخفيف الفجوات الاجتماعية. لكنّ السياسة الضريبية في لبنان لا تزال تُستخدم كأداة جباية لا كمحرّك للعدالة الاجتماعية. فبدلاً من فرض ضرائب تصاعدية على الأرباح العالية، أو على الثروات العقارية والمصرفية على سبيل المثال لا الحصر، تتجه الحكومة إلى الطرق الأسهل: فرض رسوم على البنزين والمازوت، أي على ما يستهلكه الجميع، بغض النظر عن مستوى دخلهم.

هذه السياسة ليست طارئة، بل هي استمرار لنمط تمويلي مزمن أرسى منذ التسعينيات بنية ضريبية غير عادلة، تُحابي الريوع، وتعاقب الدخل المحدود. وما قرار البنزين إلا حلقة جديدة في هذا المسار الذي لم تفلح الأزمات المتكررة في كسره.

الدولة في مواجهة مجتمعها

إنّ تثبيت أسعار المحروقات عند مستويات مرتفعة، وتحويل الفارق إلى إيراد ضريبي مقنّع، ليس إجراءً تقنياً عابراً، بل هو قرار سياسي يمسّ جوهر العلاقة بين الدولة والمجتمع. هو رسالة واضحة بأن السلطة لا تزال تفضّل الحلول السريعة والظالمة على حساب الإصلاح الهيكلي، وأنها مستعدة لإعادة إنتاج اللامساواة بدل السعي إلى تصحيحها.

في بلد بات فيه معظم السكان تحت خط الفقر، لم تعد السياسات المالية قضية حسابات فقط، بل قضية أخلاقية. والعدالة الضريبية لم تعد ترفاً، بل ضرورة وجودية لبقاء العقد الاجتماعي نفسه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى