دولياتسياسة

على خشبة ألاسكا: بين المخرج والسيناريست… والشعوب كدمى (زينب إسماعيل)

 

زينب اسماعيل – الحوارنيوز

 

مسرح، لا مكان فيه للعفوية أو لصدفة؛ كل مشهد مكتوب مسبقًا، وكل دمعة، وكل قطرة دم، جزء من نصٍ أعظم.

هكذا بدا لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالرئيس الأميركي دونالد ترامب في ألاسكا: اجتماعٌ بين من يكتب النص، ومن يدير الكاميرا.

 

في أقصى الشمال حيث يذوب الجليد ببطء، وفي منتصف أغسطس 2025، التقى الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قاعدة عسكرية محاطة بالثلج والرمزية، وكان أول لقاء شخصي بينهما منذ قطيعة طويلة، والعنوان “حرب أوكرانيا”. المشهد يبدوا لقاءً دبلوماسيًا عابرًا، لكنه في جوهره فصل جديد من مسرحية كبرى؛ مخرج وسيناريست يتبادلان الأدوار بينما تتحرك الشعوب كدمى على الخشبة. 

 

بساط أحمر، عروض جوية، وحضور رسمي يتغاضى عن مذكرة توقيف دولية تلاحق بوتين. جلس الاثنان خلف أبواب مغلقة لساعات ثلاث، تبادلا الكلمات أمام الكاميرات، لكن بلا اتفاق، بلا وقف لإطلاق النار، وبلا وعود واضحة. اكتفى بوتين بالحديث عن “تفاهم متبادل”، بينما ردّد ترامب عبارته الغامضة: “لا صفقة حتى تكون هناك صفقة”.

 

بوتين، القادم من حرب استنزفت جيشه في أوكرانيا، يحمل لغة القوة والعناد. رجل اعتاد أن يكتب نصوصه بالدم، وأن يفرض حضوره عبر ساحات المعارك، من كييف إلى الشرق الأوسط. خرج من القمة بمكاسب رمزية: حضور دولي رغم الملاحقة، صمت أممي أمام حضوره، ومساحة مناورة جديدة كفرصة لبث قوة سياسية بلا تكلفة، ونفَس أطول في حربٍ لم تنته.

 

ترامب، بخطابه الشعبوي وحسه التفاوضي، فضّل إعادة كتابة النص بصفقات وتسويات، لكنّه بدا مترددًا، متساهلًا، تخلى عن دعوته لوقف فوري للحرب، وتحول الى إتفاق سلام مبهم، وألقى عبء المبادرة على أوكرانيا، وكأنه قدّم تنازلات مجانية مقابل لا شيء ملموس.

 

الفرق بينهما واضح: الأول لا يخشى مشهد الدم، والثاني يفضّل أن تبقى الدماء خارج حدود بلاده. لكنهما يتفقان في شيء واحد: الشعوب دمى تتحرك على الخشبة نفسها.

 

خارج قاعة ألاسكا، بدت ردود الأفعال أشبه بتعليقات النقّاد بعد عرض أول:

في أوروبا، ارتفعت أصوات القلق من أن ترامب منح بوتين مساحة مناورة من دون مقابل، حيث أن اللقاء انتهى دون وقف لإطلاق النار الفوري، وأن القمة لم تتوصل الى شيء بمجرد إحتمال لقاء آخر في موسكو لكن دون أي إلتزام، ما اعتُبر تراجعًا في الضغط الغربي. أما كييف، فشعرت بأنها تُترَك وحيدة على الخشبة، إذ لم ينتج عن القمة التزام واضح بوقف القتال أو بدعم عسكري إضافي.

 

 

هكذا، بدا أن بوتين حصد “تصفيقًا رمزيًا”، فيما اكتفى ترامب بتأجيل الفصول القادمة.

 

الدمى تموت أو تتحرك وفق الخطة، وليس وفق إرادتها. هنا، بوتين وترامب هما المخرج، والشعوب (سواء في الشرق الأوسط، أو أوكرانيا، أو غيرها) مجرد جمهور يُرعَب ويُقتل ويُقسّم بهدف إبقاء المسرح مهتزًا.

 

الشرق الأوسط ليس خارج النص؛ بل ربما الخشبة الأكثر استهلاكًا في هذا المسرح العالمي. القوى الخارجية تعيد تشكيل التوازنات، كما لو أن هناك “شرق أوسط مقسّما” لكل منهم حصته: موارد، مناطق نفوذ، قوى عميلة. بينما نحن نترقب، تنتظرنا مسرحيات جديدة بشعارات مزيفة عن السلام، بيد أن الخطر الحقيقي هو تقسيم جديد وخيارات نتقلّب بها بين الاستعمار المباشر أو النفوذ بالوكالة.

 

فهنا تُعاد الخرائط مرارًا، وتقسّم الدول كأنها حصص، وتُغذّى الحروب كي يبقى كل طرف ممسكًا بخيط من الخيوط.

من فلسطين إلى لبنان، ومن سوريا إلى العراق واليمن، نحن جزء من هذا العرض الطويل: فصول متكررة من حرب وهدنة، تقسيم واتفاق، موت وانتظار.

 

هكذا خرجت قمة ألاسكا: بلا حل، بلا وعد، بلا إتفاق،  لكنها محمّلة برمزية جديدة لبوتين، وبإرباك إضافي لترامب.

 

في مسرح تحكمه القوى العظمى، الشعب “دمية” يساق بين مشاهد حرب وسلام مفبرك. لقاء الرجلين رمز للمخرج والإخراج، بينما نحن، بقينا على المقاعد، نتفرج وننتظر المشهد المقبل، من دون أن نكتب أو حتى نفهم النص الحقيقي.

 

وعلى الخشبة، تظل الدمى تموت سواء اختلف المخرج والسيناريست، أو اتفقا. ما جرى في ألاسكا لم يكن مجرد صورة تذكارية؛ إنه انعكاس لمعركة القوى العالمية: أوروبا تراقب بقلق، الصين تنتظر بحذر، والشرق الأوسط يتهيأ لتلقي ارتدادات الصفقة المقبلة. نحن أمام حوار بين من يكتب السيناريو ومن يقرر نهايته، لكن الغائب الدائم هو صوت الشعوب.

 

ويبقى السؤال الأهم: إلى متى نُترك كدمى على المسرح؟ ومتى نحمل نحن قلم السيناريو لنكتب نصّنا بأنفسنا؟

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى