إقتصاد

صندوق النقد.. والصفقة الجديدة (عماد عكوش)

بقلم د. عماد عكوش – الحوارنيوز
بدأت وزارة المالية تهيء للربيع القادم حيث ستبدأ الاجتماعات مع صندوق النقد الدولي ، لكن قبل ذلك تبرز تساؤلات حول جدية الحكومة في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة ، خاصة بعد تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان كريم سعيد ، الذي من المفترض أن يعزز مصداقية الحكومة في مفاوضاتها مع الصندوق ، لكن من الامور التي لا تظهر جدية الحكومة هو عدم جديتها في أقرار القوانين الاساسية وليس فقط المطلوبة من صندوق النقد الدولي ، فتعيين حاكم لمصرف لبنان رغم ضرورته فهو لا يكفي لتحقيق الإصلاحات الجذرية التي يحتاجها لبنان.
ان صندوق النقد الدولي يصر اليوم على ضرورة إقرار قانوني إعادة هيكلة المصارف وتعديل السرية المصرفية قبل أي اتفاق ، لكن حتى الصندوق يشكك في قدرة الحكومة على إنجازهما في الوقت القصير المتبقي من عمر الحكومة والأكثر إثارة للقلق هو أن هذه القوانين ، حتى لو صدرت ، قد تبقى حبراً على ورق في ظل نظام سياسي يعتمد على المحاصصة ويهرب من المساءلة ، ويمنع اي اصلاح حقيقي يمكن ان يؤدي الى اعادة بعض المسروقات ، وبعض المال المنهوب الذي تمت سرقته طيلة الخمسة وثلاثون سنة الماضية ، ورغم ان هذه القوانين يمكن ان تغطي على سرقاتهم بنسبة تزيد عن تسعين بالمئة كونه في كل الاحوال لن يطال السنوات الماضية وبالتالي سيعفيهم من الملاحقة ، لكن هذه الطبقة وفي ظل نظام سياسي لا يوحي بالثقة لا يمكن ان تأتمن لكيفية تطبيق هذه القوانين كما انها لا تضمن عدم توريطها وبالتالي المماطلة سيكون سيد الموقف حتى يستسلم الصندوق لرغبتبهم كونهم مطمئنين بان الدول الكبرى لن تلجأ الى تهديديهم بالعقوبات في هذه الملفات .
أما بالنسبة لقانون اعادة هيكلة المصارف فعن اي هيكلة يتحدثون وهذه المصارف تم تجريدها من كامل أصولها تقريبا” بصفقات لا يمكن ان تظهر الا عبر كشف حساباتها لتدقيق جنائي يتناول السنوات الممتدة من العام 2018 لغاية اليوم لتبيان أين ذهبت أصولها وكيف اختفت ، والى من بيعت ، وكيف تم التصرف بسيولتها وديونها في السوق ، ما لم يتم التدقيق الجنائي أولا” وقبل تطبيق قانون اعادة الهيكلة فلا معنى لأعادة الهيكلة لأن اصحاب المصارف سيقدمون مصارف لا شيء فيها للهيكلة او التقييم .
ان صندوق النقد الدولي يشدد على أهمية استعادة الثقة بالقطاع المصرفي ، لكنه يتجاهل أن المشكلة ليست فقط في القوانين ، بل في غياب الإرادة السياسية لمحاسبة المسؤولين عن الانهيار . كيف يمكن الثقة بمصارف أفلسها الفساد دون محاسبة حقيقية ، كما أن التركيز على رفع السرية المصرفية “بمفعول رجعي” يبقى غير كافٍ إذا لم يُتبع بملاحقات قضائية فعلية ، والاهم ان الثقة بالمصارف لا يمكن ان يعود دون اعادة الودائع وهذا الامر شبه مستحيل اليوم ، وللتعويض عن ذلك يكفي ان تقبل المصارف بالتدقيق الجنائي الذي ذكرناه وعن السنوات التي ذكرناها لتفصح انها ستكون شفافة في بياناتها وتقاريرها ، وبأنها لن تخفي شيء عن اللبنانيين والمودعين ، لكن هل يمكن ان تقدم المصارف على هذه الخطوة ؟
أما الاصلاحات الحقيقية التي يغفلها صندوق النقد الدولي وتتغاضى عنها الطبقة السياسية والاحزاب فهي الدستور اللبناني الذي يمنع المحاسبة بحجة العيش المشترك ، وهي هيئات الرقابة التي يتم تعيينها من قبل الطبقة السياسية لا لتراقب بل لتغطي عليهم أفعالهم ، والتي لم تكن يوما” شفافة في عملها ولا مستقلة في تشكيلها ، من القضاء ، الى لجنة الرقابة على المصارف ، الى هيئة التحقيق الخاصة ، الى الهيئة المصرفية العليا ، ومفوض الحكومة لدى مصرف لبنان كلها وظائف وهيئات لم يتم تكوينها يوما” لتعمل بشكل مستقل ، ولم نقرا لها تقارير شفافة او تحمل الحد الادنى من الشفافية ، الى الاهم وهو قانون النقد والتسليف والذي يحمل في طياته كل امكانيات الفساد ويحتاج الى تعديلات جوهرية لمنع التصرف بموجودات الشعب من قبل المسؤولين ولمنع الحكومة من وضع اليد عليها ساعة تشاء بسلف او قروض . بيت القصيد في الاصلاح المالي والنقدي هو مصرف لبنان والذي خلق فجوة تزيد قيمتها عن 75 مليار دولار نتيجة الفساد والهدر الذي مارسته الحكومات السابقة ونتيجة فساد الحاكم السابق .
في الامور التي يمكن ان تكون موضع شك بالنسبة للبنانيين هي اصرار صندوق النقد الدولي على وضع “حزمة مستدامة” لسندات اليوروبوندز وهذا يعني عملياً تحميل اللبنانيين أعباء ديون لم يستفيدوا منها ، بينما تهرب النخبة السياسية من المسؤولية. التفاوض مع الدائنين ضروري، لكن الأجدر أن يترافق مع إصلاح جذري لسياسة الاقتراض التي أوصلت لبنان إلى الإفلاس ، واصلاح الدستور لناحية السماح للحكومات على اصدار الموازنات بشكل عشوائي دون رقيب ، واصلاح قانون النقد والتسليف الذي يجاريها في أمكانية الفساد والهدر .
الكارثة الاخيرة هو اعتراف صندوق النقد الدولي بعدم جدوى اصدار قانون “كابيتال كونترول” اليوم بسبب انعدام سيولة المودعين وهذا الامر يكشف فشل السياسات النقدية السابقة والحالية ، لكن هل الأزمة انتهت ليتبنى هذا الاجراء ، هل المصارف أفلست وبالتالي لم يعد لديها سيولة تستنسب كيف تصرفها ولمن تصرفها ، هل باعت المصارف كل موجوداتها وبالتالي لا داعي لضبط حركة السيولة والرساميل لديها ، اعتقد ان المصارف لا زالت تراوغ والمودع اليوم بحاجة الى هذا القانون اضافة الى التدقيق الجنائي حتى يطمأن الى ما يحصل داخل هذه المصارف .
في النهاية فأن صندوق النقد الدولي يقدم نفسه اليوم كداعم للحكومة ، لكنه يغض الطرف عن العائق الرئيسي أمام الاصلاح الا وهو الطبقة السياسية الفاسدة التي ترفض الإصلاح الحقيقي. حتى الآن، لا شيء يشير إلى أن الذهاب إلى واشنطن سينتج أكثر من وعود جديدة، بينما اللبنانيون يدفعون الثمن ، لبنان بحاجة إلى إصلاحات فعلية ، لا إلى مفاوضات تكرس الوضع القائم. اجتماعات الربيع ستكون اختباراً لحكومة نواف سلام فإما تثبت جديتها ، أو تثبت أنها مجرد واجهة جديدة لنظام قديم وصفقة جديدة على حساب اللبنانيين .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى