كتب حلمي موسى من غزة:
صفقة التبادل، وفق مقترح باريس، كما بات معلوما، هي مجرد خريطة طريق على ثلاث مراحل: الأولى منها مفصلة بعمومياتها من دون دخول في التفاصيل، والثانية والثالثة ستبحث تفاصيلها لاحقا. وظاهريا تقود الخطة إلى تبادل للأسرى لكنها جوهريا ترمي إلى ابعاد حماس عن الحكم ضمن خطة تلبي مطلب إسرائيل من ناحية وتوجه الوضع نحو “اليوم التالي” في غير ما تريد حكومة نتنياهو واليمين الإسرئيلي. ولذلك فإن هذه الصفقة، خلافا للهدن الأولى، تتميز بأنها ليست إنسانية بحتة وأن لها أهداف سياسية واضحة. لذلك نرى قدرا كبيرا من الاحجام من جانب الطرفين عن المسارعة لقبول المقترح.
وهكذا ورغم الضخ الإعلامي المكثف طوال الأسابيع الماضية، فإن الناس تسمع جعجعة ولا ترى طحنا. وبديهي أن أكثر المتضررين ليس القادة السياسيون في الطرفين ،وإنما أساسا الجمهور المدني الفلسطيني المعرض كل يوم لمجازر ويتوق إلى انتهاء الحرب وأهالي الأسرى الإسرائيليين في غزة الذين يرون أن كل ساعة تمر بعد انتهاء الأشهر الأربعة الأولى تحمل لهم نذر أخبار سيئة. والأخيرون يضغطون كل يوم من أجل جعل الإفراج عن أبنائهم أولوية لدى حكومة نتنياهو وبعدها ليقضوا على حماس والشعب الفلسطيني كله.
والمشكلة أن كل الأطراف المشاركة في مقترح باريس، الذي غابت المقاومة عنه، بكل معنى الكلمة، لها مصالح في إشاعة أجواء تفاؤل بخصوص المداولات. أمريكا بوصفها طرف ضاغط على إسرائيل ويريد استقرار المنطقة عبر انهاء الحرب وإعادة ترتيب الأوراق. وإسرائيل بوصفها معنية في البرهان لجمهورها أنها تعمل إلى جانب استخدام القوة في غزة بطريقة دبلوماسية للإفراج عن أسراها. وهناك الوسيطان المصري والقطري الذي يكفل لهما النجاح في تمرير المقترح مكانة دول مؤثرة في استقرار الاقليم.
ولكن لا بد من ملاحظة أمرين فائقي الأهمية عى هذا الصعيد: أولهما أن استمرار الحرب لأربعة شهور ونيف يعود إلى إيمان إسرائيل أن بوسعها بمزيد من استخدام القوة والضغط العسكري أن تقوض المقاومة من جهة وأن تقلص ثمن تبادل الأسرى من جهة أخرى. أما المقاومة فهي ترى أنه بعد كل المجازر والدمار ليست في وضع يسمح لها بالتنازل عن مطالبها الأولى بشأن الأسرى وبشأن الوقف التام لإطللاق النار. وهذا ما قاد إلى موقفين متناقضين جدا من جانب إسرائيل والمقاومة: الأولى تريد مفاوضات تحت النار والثانية ترفض المفاوضات تحت النار. وهذا ربما سر التعقيد في موقف الطرفين.
ولذلك ليس عابرا تصريح مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، لشبكة ABC التلفزيونية الأمريكية: إن الاتفاق على إطلاق سراح المختطفين في قطاع غزة ليس قاب قوسين أو أدنى”.
وأضاف سوليفان الذي ناصر وإدارته إسرائيل على طول الخط، أن الولايات المتحدة تضغط على مصر وقطر للضغط على حماس لقبول العرض الذي تم تقديمه. وأننا “نريد التوصل إلى صفقة رهائن في أقرب وقت ممكن، لكن الأمر يعتمد على حماس. لا أستطيع أن أقول إن ذلك سيحدث في الإطار الزمني القريب، لكن هذا النوع من المفاوضات يتحرك ببطء حتى يتحرك فجأة بسرعة ….اليوم لا أستطيع أن أقول إن هذا بات قاب قوسين أو أدنى”.
وحتى لا نبعد كثيرا في الجدال حول من الذي يماطل في الرد يمكن القول أن أيا من قيادات المقاومة لم يعلن رفضه مقترح باريس وإن كان كل منهم تقريبا وضع شرطين لقبوله: أن يترافق مع ضمانات بعودة النازحين وانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع. ورغم ذلك أمريكا وإسرائيل تحاولان الصاق تهمة رفض المقترح بالمقاومة لتحرير نتنياهو وحكومته اليمينية من أعباء هذا الرفض داخليا وخارجيا. وأكثرت صحف أمريكية من نشر مزاعم حول أن العقبة أمام الصفقة تتمثل في الخلاف بين قيادتي الداخل والخارج في حماس. ولم يلتفت كثيرون إلى واقع أن هذا الزعم جزء من حرب نفسية هدفها تحميل حماس المسئولية عن عرقلة الصفقة وتبرئة إسرائيل من ذلك. وقد انجرت وسائل إعلام كثيرة، بينها وسائل عربية رغم عدم وجود أي تصريحات من جانب مسئولين في حماس أو مقربين مهم بهذا الشأن.
وهكذا رأت هذه الوسائل الخلافات المزعومة في حماس ولم تر آلاف البيّنات من تقارير وتصريجات وتسريبات في وسائل الإعلام الإسرائيلية عن رفض الصفقة ليس فقط من وزراء هامشيين وإنما أيضا من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو نفسه.
وفي هآرتس يوم أمس عرض المراسل العسكري عاموس هارئيل لجانب من نقاشات المجلس الوزاري السياسي الأمني لمقترح باريس. وبين حقيقة أن جانبا من المجهول في الموضوع لا يزال يدور حول عدد الأسرى الفلسطينيين المراد الإفراج عنهم مقابل كل أسير إسرائيلي ونوعية هؤلاء الأسرى. مع ذلك، نتنياهو ووزراء الليكود واحزاب اليمين المتطرف يواصلون بث خط موحد وهو أن اسرائيل لن توقف الحرب ولن تطلق سراح آلاف السجناء.
وفي نظر هارئيل فإن مقترح باريس هو اقتراح مصري – قطري تؤيده الولايات المتحدة، الذي تسوقه الآن كجزء من صفقة اقليمية كبيرة تشمل كل شيء. عملية الادارة يمكن أن تشمل الى جانب حل مشكلة الأسرى ايضا اقامة نظام جديد في القطاع بالتعاون مع السلطة الفلسطينية، الدفع قدما من جديد بحل الدولتين والقيام بالتطبيع بين اسرائيل والسعودية وتأسيس محور اقليمي قوي لصد ايران. وزير الخارجية الامريكي، انطوني بلينكن، وصل أمس الى المنطقة للدفع قدما بهذه المبادرة.
ولاحظ هارئيل أن الجدول الزمني، الذي في اطاره تعمل الادارة الامريكية، مكتظ. أولا، الدول العربية السنّية تضغط لوقف الحرب في القطاع قبل شهر رمضان الذي سيبدأ في الاسبوع الثاني في شهر آذار القادم. ثانيا، الخطة الاقليمية الطموحة يجب أن تبدأ بالتقدم خلال الربيع قبل أن يدخل سباق المنافسة على الرئاسة الامريكية في اشهره الاخيرة قبل الانتخابات في تشرين الثاني. رجال الرئيس الامريكي بدأوا في حملة احاطات طويلة في اوساط المحللين الكبار في وسائل الاعلام الامريكية من اجل عرض المبادرة، التي يتم وصفها وكأنها نظرية بايدن للشرق الاوسط. ورغم أن الخطة معقدة جدا ومليئة بالعوامل المختلفة وتعتمد على حسن نية كل الاطراف (الامر المشكوك فيه) إلا أن البيت الابيض يحاول اظهار التفاؤل.
في واشنطن يفترضون أن ولي عهد السعودية، محمد بن سلمان، يريد التوقيع على حلف دفاع مع امريكا الى جانب اتفاق التطبيع مع اسرائيل، حتى قبل الانتخابات في تشرين الثاني. في نفس الوقت يعتبرون هناك المبادرة الاقليمية حبل نجاة محتمل لنتنياهو، الذي ضعفت مكانته في الداخل جدا بعد هجوم حماس في 7 اكتوبر. نتنياهو الآن يبث خط معاكس يفيد بأنه هو الذي سيمنع بكل الطرق اقامة الدولة الفلسطينية وسيفشل أي محاولة لدمج السلطة الفلسطينية في حل “اليوم التالي” في القطاع.
أما يوآف ليمور المعلق العسكري ل”إسرائيل اليوم” فكتب مناقضا نفسه قائلا: “في نهاية الأسبوع علم عن خلاف بين حماس غزة التي يقودها يحيى السنوار وبين حماس الخارج بقيادة إسماعيل هنية. الغزيون يريدون صفقة الان؛ في الخارج يشترطونها بوقف تام للقتال. واذا كانت هذه التقارير صحيحة، ففيها مؤشر مشجع. يمكن أن نتعرف منها على ان السنوار والقيادة حوله تعبون من القتال ويحتاجون الى هدنة. في إسرائيل سيدعون على أي حال بان هذا يشهد على أنهم يتأثرون بالضغط العسكري، بل وربما يخشون على حياتهم، ويأملون في أن تتيح لهم الهدنة إعادة البناء وجمع القوى للمواصلة. من يعارضون الصفقة سيقولون انه محظور التوقف الان بالذات. إذ سيقولون انه مع قليل من الضغط الإضافي، حماس ستنهار.
ولكن التقديرات المهنية تفيد خلاف ذلك. حماس بعيدة عن الانهيار. صحيح ان الجيش الإسرائيلي يضغطها بقوة في خانيونس، لكنه لا ينجح بعد في المس بكبار مسؤولي المنظمة. كما أن الجيش الإسرائيلي يعمل أيضا مرة أخرى في الأيام الأخيرة في شمال القطاع. لكن حماس تبدي فيه بوادر حكم متجدد – من خلال افراد شرطة انتشروا في الشوارع، كلهم من رجالها. وعلى أي حال فان رفح ومحور فيلادلفي لم يعالجا بعد. بحيث أنه سيكون مطلوبا على الأقل بضعة اشهر أخرى الى أن تنتهي المعركة في غزة.
وأليكم بعض ما نشرته الصحافة الإسرائيلية عن اجتماع المجلس الوزاري السياسي الأمني لمناقشة مقترح باريس. عنوان: “لا يمكن تصوره”: الوزراء غاضبون من الخطوط العريضة لصفقة التبادل”.
تلقى وزراء الحكومة، يوم أمس، لمحة عامة عن المفاوضات بشأن صفقة التبادل، وأعرب بعضهم – بمن فيهم الوزراء نير بركات، عميحاي شيكلي، يسرائيل كاتس، آفي ديختر، ياريف ليفين، يوآف كيش وميري ريغيف – عن معارضتهم لـ الخطوط العريضة الناشئة.
وبحسب وزير العدل ياريف ليفين، فإن العدد الأساسي لعدد السجناء لكل مخطوف “غير مقبول”. وأشار أيضًا إلى أنه “لا يمكننا أيضًا إطلاق سراحهم إلى يهودا والسامرة. نحن بحاجة إلى إيجاد حل لهذا الأمر”. وأضاف وزير التعليم يوآف كيش: “لا يمكن أن تكون هذه هي الصفقة. ما نشر في وسائل الإعلام لا يبدو جيدًا على الإطلاق. إنه أمر مقلق”.
وتساءل الوزير مئير بوروش: “لماذا يتم طرح هذه المناقشة هنا وليس في مجلس الوزراء؟”. أجاب كيش: “لا بد من الصعود إلى الحكومة. ماذا يعني ذلك؟”. وأضاف الوزير بركات: “الحكومة وحدها هي الجهة المخولة بمناقشة الصفقة واتخاذ القرار بشأنها. لا يجب أن نذهب إلى صفقة جزئية. إما أن يعيدوا الجميع أو لا يوافقوا. لا يوجد نصف ولاية. وإلا فإنه سيتم”. لا ينتهي.”
وهتف كيش قائلاً: “أطالب بألا تكون هناك صفقة سخية أكثر من اللازم. هذا غير مقبول”. وأضاف بركات: “مفتاح يوم راحة لكل مخطوف وهمي. في الجولة السابقة حصل كل عشرة مختطفين على يوم راحة”. ووافقه ليفين قائلاً: “هذا مفتاح لا ينبغي الاتفاق عليه”. إلى ذلك، أعرب الوزير عن غضبه: “بدلاً من أن يُسمع صوتنا في وسائل الإعلام، يجب إعلامنا وعدم التوصل إلى اتفاق والاكتفاء بالتصويت”.
ورد رئيس الوزراء نتنياهو على كل الادعاءات قائلا: “الحكومة هي التي ستحدد حدود القطاع وليس حكومة الحرب. من سيبني الإطار هو الحكومة الموسعة. وبعدها يأتي قرار الحكومة”.
ورد بركات بغضب: “من المستحيل أن نترك أحدا بعد أربعة أشهر. واجبنا أن نعيد الجميع. بما في ذلك كل الجنود. حتى آخر المختطفين. صفقة واحدة شاملة تعيد الجميع. للأسف، رائحة حماس تفوح منها”. ضعف من حكومة المفهوم وتسمح لنفسها بمحاولة ابتزازنا”.
وقال الوزير الشكلي: إن هذه الحرب لها بعد نفسي لا يقل أهمية عن البعد الجسدي. عندما يتم نشر جميع أنواع الخطوط العريضة التي يُزعم أن إسرائيل وافقت عليها، والتي تشمل إطلاق سراح الإرهابيين بالجملة أو وقف الحرب، فإننا نعاني من ضرر معنوي خطير يؤثر أيضًا على القوات التي تقاتل على الأرض. والأكثر من ذلك، من العار أن يتم نشر الاتفاقيات التي من الواضح لنا جميعا أن الأغلبية المطلقة في الحكومة، وأنا بينهم، ستعارضها بشدة.
وأضاف: “أطالب بقطع فوري، وليس خلال أسبوع أو أسبوعين، نقل المساعدات عبر UNRA، وهي هيئة أصبحت واضحة لكل من رفض الاعتراف بها حتى الآن ليس فقط كإرهابية”. منظمة داعمة، ولكن كمنظمة إرهابية فعلية. ومن الضروري التأكد من حظر نشاطه في يوش أيضًا. كما يطالب الجيش الإسرائيلي بالإفراج الفوري عن المواد التي تدين المنظمة.
وبحسب المصادر المطلعة، فإن الهجوم الكبير الذي شنه وزراء الليكود في اجتماع مجلس الوزراء ضد الخطوط العريضة لصفقة الاختطاف قد بدأ وتم الإعلان عنه بشكل جيد. كما طُلب من العديد من الوزراء التحدث علناً في وسائل الإعلام ضد عناصر معينة من الصفقة. وهذا لا يعني أنه طُلب من الوزراء أن يقولوا أشياء لا يتفقون معها، بل طُلب منهم في المقام الأول إبراز موقفهم ونشره.