رأي

صراع السلطة وموظفي القطاع العام حول زيادة الأجور : الواقع المالي والشروط (عماد عكوش)

 

بقلم الدكتور عماد عكوش – الحوارنيوز

     

منذ قيام الدولة اللبنانية، ولبنان يعيش حالة الصراع ما بين السلطة والحاشية عندما تتدهور الاوضاع الاقتصادية وينكمش الاقتصاد وتصبح بالتالي موارد الدولة قليلة .

وقد تكررت هذه الازمة في الاربعين سنة الماضية كل عشر سنوات تقريبا، حيث أدى تراجع سعر صرف العملة اللبنانية الى تراجع القدرة الشرائية للموظف في القطاع العام وبشكل كبير ، لكن في السابق كانت الثقة بالدولة والنظام اللبناني  موجودة ولو نسبيا ، وبالتالي كانت هناك قدرة لدى مصرف لبنان على تثبيت سعر الصرف ، كما كانت الدولة والحكومة اللبنانية قادرة على اللجوء الى الاسواق المالية للأستدانة لتغطية العجز في الموازنات ، كما ايضا كانت بعض الدول تقدم بعض القروض للحكومة اللبنانية .

 اليوم يعيش لبنان أزمةً سياسيةً واقتصاديةً ومالية خانقة من ضمن نتائجها انهيار القطاع المصرفي وتلاشي الودائع وتراجع احتياطي مصرف لبنان من العملات الصعبة، والتي كان يستند اليها مصرف لبنان في عملية تثبيت سعر الصرف للحفاظ على القيمة الشرائية لرواتب القطاع العام . اليوم ايضا ما زالت التحديات مستمرة في تعيين موظفي القطاع العام وما زالت عملية التعيين تخضع للمحاصة، وهذا ما نراه ورأيناه في كل المناسبات ، من تعيين موظفي الاحراش ، الى تعيين موظفي الجمارك ، الى اليوم نتائج امتحانات المدرسة الحربية والتي ما زالت الطبقة السياسية تبحث عن مخرج لتمرير التعيينات برضى الجميع .    

هذه الأزمات تتفاقم بفعل المحاصصة الطائفية والسياسية التي تسيطر على آليات التوظيف ، ما يحول دون تحقيق العدالة والكفاءة في ملء الشواغر الوظيفية، وما يجعل ولاء هذه الحاشية للسلطة وللاحزاب وليس للشعب ، لا بل العكس تماما تقوم هذه الحاشية بالانتقام من الشعب الذي سمح لهذه السلطة بممارسة الذل عليهم وإجبارهم على التذلل ليستطيعوا ان يصلوا الى الوظيفة ، فبرأي الحاشية ان الشعب هو المسؤول عن ابقاء هذه المنظومة في الحكم .

إن نظام المحاصصة المتبع في لبنان يجعل من الصعب إجراء امتحانات نزيهة وشفافة لتوظيف الأكفاء في القطاع العام . بدلاً من ذلك ، يتم إلغاء النتائج أو تعديلها لتناسب الأهواء السياسية والطائفية. إن هذا النهج في التوظيف يخلق بيئة من الفساد والمحسوبية ، حيث تصبح الوظائف العامة أدوات للسلطة التنفيذية لكسب الولاءات وتأمين النفوذ السياسي .  

في ظل هذه الأزمة الاقتصادية الحادة التي تعصف بلبنان اليوم ، تتفاقم الصراعات حول زيادة أجور موظفي القطاع العام الذين بدأوا بالمطالبة بزيادة أجورهم لمواجهة التضخم وغلاء المعيشة ، بينما تواجه السلطة التنفيذية تحديات كبيرة في توفير الموارد المالية اللازمة لهذه الزيادات . فالوضع المالي المتدهور في لبنان يجعل من الصعب على الاقتصاد تحمل أي زيادات كبيرة في الأجورمن  دون التسبب في مزيد من التضخم  ، كما تعاني الحكومة من نقص شديد في السيولة وتراجع كبير في الإيرادات ، ما يضعها في موقف حرج بين تلبية مطالب الموظفين والحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والنقدي .

إن حل هذه الأزمة ، فيما لو كان هناك نوايا صادقة تسعى الى المعالجة والحفاظ على الاستقرار ، يتطلب إجراءات جذرية ومعقدة تشمل ما يلي :

– إصلاح نظام التعيينات : يجب اعتماد آلية شفافة وعادلة لتوظيف موظفي القطاع العام ، ترتكز على الكفاءة والجدارة بعيداً عن المحاصصة الطائفية والسياسية.

– إعادة هيكلة القطاع العام : يتعين على الحكومة العمل على تقليص حجم القطاع العام وتحسين كفاءته ، وذلك عبر تقليص عدد الموظفين غيرالضروريين وتطوير قدرات الموجودين.

– إصلاحات اقتصادية شاملة : يجب تنفيذ إصلاحات اقتصادية تهدف إلى تعزيز النمو الاقتصادي وتحسين الإيرادات الحكومية ، ما يسهم في توفير الموارد اللازمة لزيادة الأجور بطريقة مستدامة.

– مكافحة الفساد : إن مكافحة الفساد بجميع أشكاله يعتبر خطوة أساسية لإعادة الثقة في المؤسسات العامة وتحسين أدائها.

ان كلفة رواتب وحوافز القطاع العام في لبنان كانت تمثل نسبة كبيرة من الموازنة العامة قبل الازمة في عام 2018 ، واليوم ما تزال تمثل تحديًا ماليًا كبيرًا . في عام 2018، كانت كلفة رواتب وحوافز القطاع العام في لبنان تقدر بحوالي 7.5 تريليون ليرة لبنانية ، أي ما يعادل نحو 5 مليارات دولار أمريكي ، وذلك بناءً على سعر الصرف الرسمي الذي كان يقارب 1500 ليرة للدولار الواحد. هذه الكلفة كانت تشكل نحو 35-40% من إجمالي الإنفاق العام في الموازنة ، ونسبة حوالي 10 بالمئة من الناتج القومي .

اليوم، وبالنظر إلى الأزمة الاقتصادية الحادة التي يشهدها لبنان ، والانخفاض الكبير في قيمة العملة الوطنية ، فإن الأرقام تغيرت بشكل كبير. فمع انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية أصبح من الضرورة تحديد الكلفة وفق تقديرات دقيقة بالدولار الأمريكي . هذا وتقدر الرواتب في القطاع العام كنسبة من الانفاق العام ما بين 40-50% .

لكن السؤال الاهم هل تتوافق هذه النسب مع المعايير الدولية ومع باقي دول المنطقة ؟

ان تحديد ما إذا كانت كلفة رواتب وحوافز القطاع العام في لبنان تتماشى مع المعايير العالمية يتطلب مقارنتها مع نسب مماثلة في دول أخرى . وفقًا للمعايير العالمية ، تعتبر النسبة المثلى لكلفة رواتب القطاع العام من الناتج المحلي الإجمالي (GDP) ومن إجمالي الإنفاق الحكومي معيارًا مهمًا.

في العديد من الدول، تتراوح نسبة الإنفاق على رواتب وحوافز القطاع العام من الناتج المحلي الإجمالي بين 5% إلى 15%. الدول ذات القطاع العام الكبير قد تتجاوز هذه النسبة.

عادة ما تشكل رواتب القطاع العام بين 25% إلى 35% من إجمالي الإنفاق الحكومي في الدول ذات الإدارة المالية الجيدة. في الدول التي تعاني من فساد أو سوء إدارة مالية، قد تكون هذه النسبة أعلى.

ان جدية معالجة هذه المشكلة يستند الى قرار جدي يصدر عن السلطات التشريعية والتنفيذية باتخاذ التدابير اللازمة، وهذا ما يجب ان يفهمه موظفو القطاع العام، والا فإن كل ما يعدونهم به الاحزاب والحكومات هو مجرد حبر على ورق مرمي على الارض سيختفي مع اي هطول للمطر.

إن الصراع بين السلطة التنفيذية وحاشيتها من موظفي القطاع العام اليوم حول زيادة الأجور يعكس عمق الأزمة السياسية والاقتصادية في لبنان . الحلول الجذرية والشاملة هي السبيل الوحيد للخروج من هذه الأزمة ، بما يضمن تحقيق العدالة والكفاءة في التوظيف وتحسين الوضع الاقتصادي للبلاد ، كما يجب على الأطراف المعنية أن تتعاون بشكل جدي لإيجاد حلول مستدامة تضمن حقوق الموظفين وتحافظ على استقرار الاقتصاد اللبناني والعملة المحلية .

 

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى