شيء في الحرّية من الثّورة الحسينيّة
د.على المحجوب – تونس*
قال الحسين بن علي لمّا أن خطب في الرّهط الذين قد عزموا على قتاله وأهلَ بيته وأصحابَه بكربلاء:" … إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحرارا في دنياكم… ".
وقال عمر بن سعد، وكان قائد المعسكر المناوئ للحسين، وهو يتردّد بين أن يمضي في قتال الحسين، وقتله المحتوم، وبين الإعراض عن ذلك:
" فواللّه ما أدري وإني لحائر * أفكّر في أمري على خطرين
أأترك ملك الرّي والرّي منيتي *أم أرجع مأثوماً بقتل حسين"
إذ كان يزيد بن معاوية قد وعده ولاية الرّيّ إن هو أنفذ أمره في الحسين بن علي. وكان مدار الخلاف برمّته حول أخذ البيعة بالخلافة من الحسين ليزيد ولو عنوةً، لم يختلف في ذلك عاقلان.
ثمّ إنّ عمر بن سعد مضى في قتال وقتلِ الحسين وأصحابه.
أمّا "الحرّ الرّياحي" فإنّه رجلٌ قد خرج في معسكر عمر بن سعد لقتال الحسين أيضا، ولقد اعتراه شيء ممّا اعترى صاحبه فقال وهو بين المعسكرين:" إنّي – وَاللهِ – أُخيّرُ نفسي بينَ الجنّةِ والنّارِ، ولا أختارُ على الجنَّة شيئاً، وَلَو قُطِّعتُ وحُرِّقت." ثم ولج معسكر الحسين بن علي فقاتل معه ومعه قتل.
فماذا لو أنّك يا صاحبي خيّرت نفسك اليوم بين ما تعتقد أنّه جنّة وما تعتقده نارا، إذا ما خُيّرت بين "رَيٍّ" وبين نصرة أمم مظلومة وقضايا تراها يقينا عادلة وإن لم يفصح لسانك عن ذلك؟ لا يهمّني إن كنت تعتقد في "الجنّة" و"النّار" كما قد أفعل أم خلافه، سيّان كثر الخلاف بيننا في ذلك أم قلّ، ولا حتّى إن كان أحدنا أو كلانا لا يعتقد بشيء من ذلك أصلا. فإنّ مدار الحديث هاهنا حول الإنصاف. إنصاف نفسك من نفسها أوّلا، ثمّ إنصاف الآخر من نفسك ولو كان خصما. والإنصاف باب من أبواب الحرّيّة. فأنْ تكون "حرّا" ليس يلزمه أن تعتقد بشيءٍ ممّا أعتقده ولا لازمه أن تعتقد، أو أعتقد، أصلا بشيءٍ من اللاّهوت والمَعادِ والثّواب والعقاب وما شاكله من الغيبيّات. نختلف في الرّأي ولكنّنا لا نعدو إنصاف بعضنا، فإنّه لم يطعن عاقل في كون أنّ الإنصاف محمود.
ثمّ إنّ "زهيرًا بن القين"، وهو من أصحاب الحسين بن عليّ، قد قال لمناوئي الحسين قبل احتدام المعركة بينه وبينهم في كربلاء، وهو يَعِضُهُمْ أن يكونوا له من القاتلين: "… ونحنُ حتَّى الآنَ إخوةٌ على دينٍ واحدٍ ما لم يقعْ بينَنا وبينَكمُ السّيفُ، وأنتُم للنّصيحةِ منَّا أهلٌ فإذا وقعَ السيفُ انقطَعَتْ العِصْمَةُ وكُنَّا أمَّةً وأنتُم أمَّة… "، ولو أنّك شئت ترجمة مقالته بلغة عصرنا فإنّك تخلص إلى شيء ممّا هو: "نحن أبناء دين واحد (في مقتضى حالهم يومها)، وإنّ واجب التناصح بيننا قائم رغم اختلافنا في الرّأي، وإنّ حرّيّة الرّأي مكفولة للجميع ما لم يلجأ أحدنا إلى إكراه الآخر على قبول رأيه بالعنف والتّهديد والإرهاب".
ولعلّك تكون بهذا التّعبير آنَسَ إذْ أنّه تعبير معاصر وأنت وأنا معذوران في كوننا أبناء هذا الزّمن. ولعلّه من أوضح المشتركات بين أغلب المجاميع البشريّة دعوتها إلى "حرّيّة الرّأي". بل إنّ الدّول التي ليس فيها شيء من هذه الحرّية قد تنتفض إذا ما اتّهمها أحدهم بالتّضييق على "حرّيّة الرّأي". وحديثنا هاهنا عن المجاميع البشريّة التي تعيش ضمن حيّز تاريخنا لا عن تلك التي اختارت حيزا آخر خارج التّاريخ.
ولأنّ الإنصاف والحرّيّة قِيَمٌ إنسانيّة تتجاوز حدود الدّين والعرق والطّائفة…، فإنّ استلهام طائفة من مفكّري العالم الحديث، من أديان مختلفة، لدروس في الحرّية ومقارعة "الفساد والظّلم" ومحاربة الإكراه للنّاس على ما لا يريدون، إستلهاما من قيام الحسين بن علي بوجه الظلم والفساد على قلّة عديد جنده وقلّة ناصره، لم يكن يلزمه أن يكونوا قد آمنوا بشيء من نحو أنّه حفيد نبيّ الإسلام أو أنّه، عند طائفة من المسلمين، إمام مفترض الطّاعة أو أنّه معصوم، أو أنّه إمام منصّبٌ من السّماء… فالحرّيّة، كما قد علمت، بمعنى أن يكون الإنسان "حرًّا"، ليس يلزمها شيء من ذلك.
ثم إنّ الإنصاف للأمم المظلومة ونصرة القضايا العادلة بالمنظور الإنسانيّ المجرّد، يكون ولو بعد حين، لو قد شطّت بك الرّحلة بعيدا عنه لغفلة أو لغيرها. وحركة الحرّ الرّياحي ليست سجينة يوم عاشوراء ولا هي حكرٌ على طائفة من النّاس ولا على جماعة سياسية أو عقائديّة، وحتّى لو كانت كذلك فإنّ لك أن تخرجها من ذلك الإطار إلى التّجرّد. فإنّ شيخا من أهل الشّام ممّن كان يظنّ في زين العابدين عليّ، وهو بن الحسين المقتول بكربلاء، وأهلِهِ من موكب السّبايا، لمّا أن وردوا الشّام، أنّهم من "المجرمين"، قد فعل شيئا ممّا فعله الحرّ لمّا أن بيّن له علي بن الحسين حقيقة أمرهم ومظلوميّتهم فقال الرّجل شيئا ممّا قاله الحرّ:"هل لي من توبة يا بن رسول الله؟". فكان ذلك إنصافا منه لقي لأجله القتل كما قتِل الحرّ قبل أيّامٍ من ذلك بكربلاء.
وليس الحرّ، ولا الشّيخ الشّاميّ بعده، حصرا بكربلاء ولا بيوم عاشوراء، ولا أنّ عمر بن سعد كذلك، وإنّما هو "حرُّ" كلّ زمن فيه إنصاف ونصرة لقضيّة عادلة وقع فيها ظلم على أمّة من النّاس، وما أكثرهذه القضايا في أيّامنا. فاستفتِ نفسك يا صاحبي، أَ"حُرٌّ" فيها أم أنّ فيها "بن سعد"؟
*دكتور في الهندسة البيولوجية وحاصل على ماجستير في الحضارة العربية والاسلامية