السفير د. جواد الهنداوي*
عندما تقفُ الامّة امام مفترق طرق ،يُفرضْ عليها بفعل ظاهرة وباء او حالة تغير سياسي و اجتماعي، يُبعثْ في حياتها من جديد موروثها القيمي البدائي، والذي ظنّناه قد خرج من ذاكرتها . و كأنَّ المنايا والمِحنْ اختبار لقدرة و مقاومة الوعي الجمعي للأمة و حضارتها على الصمود وتحاشي الانهيار والسقوط . دَرّستنا تجارب صولات المواجهة بين الأمة والقَدرْ بأنَّ الدولة وليس الحزب او الطائفة هي مُعين الأمة ومناعتها في المواجهة.
لم يكْ للقيم و للنظم المشتركة بين الدول الأوربية دور فاعل في مواجهة وباء كورونا بقدر ما كان دور كل دولة في حماية و اغاثة رعاياها ،و الاستعانة بمن هو بعيد عنها جغرافياً و سياسياً . ولم تكْ قيم التعاون والتكافل والعدالة السائدة في المجتمعات الغربية قادرة على الصمود ، وقت الوباء، لولا الدولة في رقابتها و رعايتها للنظام العام. و لولاها ( واقصد الدولة ) ، لهيمنَ، و بجشاعة اكثر ،العنصر الأبيض على الاسود في أمريكا، ولأصبح الدواء والغذاء حصراً على فئة دون أخرى ، و لأصبحَ السلاح هو سيد الموقف.
الدولة، والتي تمثل الامّة و تعبّر عنها ، هي التي وقفت سداً منيعاً امام عودة البعض الى قيمهم البدائية ،الى عنصريتهم وجشعهم وتقاتل بعضهم البعض.
مصلحة الامّة و مستقبلها هي الدولة شريطة ان تكون في خدمة الشعب وليس في قهرهِ واستبدادهِ ونهب ثرواتهِ ، شريطة ان تكون دولة الشعب وليس دولة سلطان جائر او دولة حزب او مذهب او قومية او طائفة ، او فصيل مُسّلح.
قبل حلول وباء كورونا بما يُقارب عقديّن، واجهت منطقتنا، دولاً و مجتمعات، ظاهرة تحّول سياسي و اجتماعي و بعنوان دواء وليس وباء: دواء التحرر والديمقراطية وثورات و ربيع عربي. وكان العراق أولَ مَنْ جرّب دواء التحرر والديمقراطية: التحرر من الاستبداد والديكتاتورية. وشاهدنا محاولات ونعرات البعض بالعودة والمجتمع الى ما هو بدائي و متخلف من السلوك و القيم. و لم نعشْ، حينها ، ظاهرة التحرر من الاستبداد والديكتاتورية، وانما أُريد لنا ان نعيش ايضاً ظاهرة التحرر من مفهوم الدولة والعودة الى سطوة العشيرة والقبيلة والطائفة ، و الاّ، لِمَ تَمَّ حّل الجيش و مؤسسات الدولة ونهبها وسلبها ؟ ولم يتوقف استهداف الدولة وقيم المجتمع و ترويج ما هو بدائي و متخلف و مُخرّب عند بدء مسار التحرر والديمقراطية، وانما استمّر الاستهداف مصاحباً و مُستغلاً المسار، و بآليات أخرى: هو الإرهاب بسلاحه و بأفكاره وبقدراته وبمموليه و مجهيزه. ولم يقتصر الإرهاب على العراق فقط ، وانما تمدد و توسّع، وبجواز سفر عنوانه " الديمقراطية والربيع العربي " في المنطقة و خاصة في سوريا ولبنان، وكان ولا يزال هدفه إسقاط الدولة. لأنََ الدولة ومؤسساتها هي مناعة الشعب في مواجهة الخراب والاقتتال والدمار .
هزيمة الغرب أمام وباء كورونا تعني عودة شعوبهم ومجتمعاتهم الى قيمها الغريزية البدائية، والدولة هي التي توّلت حمايتهم.
هزيمة العراق و سوريا والشرق امام الإرهاب و داعش، والتي لم تحصلْ، كانت تعني عودة شعوبنا و مجتمعاتنا الى عصر الوأد و الاقتتال والنهب والسلب ، الدولة هي التي توّلت حمايتنا، قاتلنا داعش باسم الدولة ، باسم العراق، وليس باسم حزب او طائفة او قومية او مذهب.
ماهي العِبرْ مما تقدم ؟
استعان الغرب بالدولة وبالله وبالسماء (مثل ما جاء في خطاب رئيس وزراء ايطاليا) في مواجهة الوباء ، وتتجه دول الغرب الآن الى تعزيز وترسيخ كيان و مؤسسات الدولة ، ليكون أمن وسلامة الدولة وطني وليس إقليميا او دوليا .
واستعان العراق بالله وبالدولة وبفتوى المرجعية الرشيدة في مواجهة الإرهاب، وعلينا الآن ان نسعى الى تعزيز وترسيخ كيان الدولة ومؤسساتها .
نفهم الآن اكثر من ايّ وقت مضى ، لماذا يسعى الغير الى تفتيت الدولة في منطقتنا او الى اضعافها ، وهذا الغير وبهذا المسعى، لا يمكن ان يكون الأّ عدواً.
ليس فقط سيادتنا هي الدولة وانماّ هي ايضاً حمايتنا ورعايتنا، ومطلوب منّا ايضاً احترامها و الولاء المطلق لها والدفاع عن مقوماتها.
*سفير سابق لجمهورية العراق ورئيس المركز العربي الأوروبي للسياسات وتعزيز القدرات-بروكسل