“شهداؤكم ليسوا موتى… بل أوتاد هذه الأرض المقدسة” (أسامة مشيمش)

بقلم الدكتور أسامة توفيق مشيمش – الحوارنيوز

لن أقدّم لكم واجب العزاء، لأن من قدّم شهيدًا لا يُعزّى، بل يُكرَّم. من قدّم روحه فداءً للأرض لا يُبكى، بل يُرفع فوق الرؤوس، ويُسجّل اسمه في سفر الخلود بحروف من نور ودم. أنا لا أقف اليوم لأواسيكم، بل لأتشرّف بتقديم واجب الشكر والتقدير والاحترام لكم، أنتم الذين قدّمتم أبناءكم وأحبّاءكم قرابين طاهرة على مذبح الوطن، ذلك الوطن الذي لا يملكه إلاا الشرفاء، ولا يصونه إلا الأحرار، ولا يدافع عنه إلا أولئك الذين يقدّسون الأرض والعرض والكرامة.
دماؤهم ليست خسارة، بل استثمار في الكرامة والعزّة والبقاء. أرواحهم لم تُزهق عبثاً، بل حلّقت كطيور الفجر في سماء الكرامة، وارتفعت إلى حيث لا يصل الخونة والجبناء. إن الشهيد لا يموت، بل يتحوّل إلى جذرٍ عميق في تربة هذا الوطن، يروي أشجاره، ويمنحنا ثباتاً لا تهزّه العواصف ولا تغلبه الفتن.
نعم، الأرض أرضنا. نرددها اليوم بصوتٍ عالٍ لا يخشَ الرصاص ولا الحصار:
الجنوب جنوبنا، والشمال شمالنا، وبينهما قلبٌ نابضٌ بالحرية اسمه الوطن.
النهر نهرنا، والبحر بحرنا، والسماء سماؤنا، والجبل جبلنا.
ولا يظننّ أحدٌ، مهما تآمر أو خان أو باع، أنه قادرٌ على انتزاع هذه الحقيقة من قلوبنا أو من خرائط التاريخ.
فلتشهد يا تاريخ…
نحن لم نكن ضيوفاً على هذه الأرض، نحن أهلها وأسيادها.
لم نكن عابري سبيل، بل حماة ديار، وصُنّاع ملاحم.
كنا وما زلنا، وسنبقى، الحصن المنيع الذي تحطّمت عليه أطماع الطغاة والمستعمرين.
لقد أثبتت هذه الأمة، بدماء شهدائها، أن الكرامة لا تُمنح، بل تُنتزع.
وأن الأرض لا تُستردّ بالكلام، بل بالموقف.
وأن الحرية لا تُهدى، بل تُنتزع بنصلٍ من وعي، وبفوهة بندقية، وبصبر أمٍ تنتظر، ولا تضعف.
نحن أمة لا تموت لأننا لا نُهزم.
نُخذل أحيانًا، نعم، لكننا لا نستسلم.
نُتعب، نعم، لكننا لا نكلّ.
ننزف، نعم، لكننا ننهض دومًا، ونكمل الطريق حاملين جراحنا كأوسمة.
ليس لنا آخر ما دامت هناك امرأةٌ حُرّة تلد، لا عبدًا، بل مقاتلًا.
ليس لنا آخر ما دام هناك فلاح يزرع أرضه، لا خوفًا، بل إيمانًا بأن الأرض لمن يرويها بعرقه ودمه.
ليس لنا آخر ما دام هناك طالب علم يرى في المعرفة طريقًا للتحرّر، لا وسيلة للتسليم.
ليس لنا آخر ما دامت هناك قبضةٌ ترفع راية المقاومة، لا الخنوع.
ما دام هناك ثائر يعرف أن الحياة بلا كرامة ليست حياة، بل موتٌ على قيد العيش.
إن معركتنا لم تكن يومًا مع العدو وحده، بل مع الجهل والخنوع واليأس.
فأبناؤنا الذين يسقطون شهداء لا يُعلّموننا فقط كيف نقاوم، بل كيف نعيش بكرامة.
كل شهيدٍ منهم هو رسالة حيّة تقول: لا تتنازلوا. لا تتعبوا. لا تصالحوا. لا تنسوا.
إنهم النور الذي يضيء لنا عتمة الطريق، والنبض الذي يمنعنا من السكون.
كل واحد منهم قصيدة لم تكتمل، لكنها ستُروى جيلاً بعد جيل.
كل أم شهيد هي أيقونة صبرٍ ومجد.
وكل أب شهيد هو نخلة لا تنحني مهما اشتدت الرياح.
لهذا، نحن لا ننعى الشهداء، بل نُجدّد العهد معهم.
نقول لهم: سنبقى على الطريق.
لن نُسلّم الراية.
لن نُفرّط بشبر.
لن نُصافح من لوّثت أيديهم بدمائكم.
لن نُساوم على تضحياتكم.
سنبقى نردّد:
هنا ولدنا، وهنا نحيا، وهنا نموت واقفين، لا راكعين.
وسيبقى الوطن الذي رسمتم حدوده بدمائكم منيعًا، لأنكم حراسه الأبديون.
المجد والخلود لشهدائنا.
الكرامة لعائلاتهم.
والنصر لنا، لأننا لا نعرف سوى الكفاح سبيلًا.


