شرق أوسط يُفصَّل بالمفاوضات والدم : لم يُسقطوا الأسد… بل غيّروا القفص! (زينب إسماعيل)

كتبت زينب اسماعيل – الحوارنيوز

ما جرى في سوريا لا يمكن اختصاره بجملة “سقط الأسد”.
الأسد لم يسقط بالمعنى الذي يُفترض أن نفهمه سياسيًا أو أخلاقيًا أو تاريخيًا. لم يُحاسَب، لم يُهزم، لم يُساق إلى محكمة، ولم يُنزع عنه الغطاء. بل نُقل بهدوء إلى روسيا، تحت حماية مباشرة، سليمًا معافى، كما لو أنّ كل ما ارتكبه هو وعائلته بحق الشعب السوري لم يكن سوى صفحة انتهت صلاحيتها في دفتر المصالح الدولية.
منذ عام 2011، شُنّت حرب مفتوحة على النظام السوري. حرب عسكرية واقتصادية وإعلامية وأمنية. ضُخّت مليارات الدولارات، دُمّرت مدن، شُرّد شعب كامل، واستُخدمت كل أنواع التنظيمات المسلحة، من “معتدلة” إلى تكفيرية. ورغم ذلك، لم يسقط النظام. صمد، تماسك، استمر، لا بقوته الذاتية فقط، بل لأن لحظة إسقاطه لم تكن قد نضجت بعد دوليًا.
السؤال البديهي اليوم هو:لماذا نجحت عملية الإطاحة الآن؟
ولماذا جاءت بهذه السرعة والسلاسة؟
ولماذا خرج الأسد من المشهد حيًا محميًا بدل أن يسقط تحت أنقاض القصر الذي حكم منه؟
الجواب ليس في الشارع السوري، ولا في “الانتصار العسكري” المفاجئ، بل في أن وظيفة الأسد انتهت. لم يعد قادرًا على استكمال الدور المطلوب في مشروع الشرق الأوسط الذي يُراد له أن يُعاد رسمه. لم يعد مرنًا بما يكفي، ولا قابلًا لتقديم التنازلات الكبرى، ولا مؤهلًا للعب دور الواجهة الجديدة. وهكذا، لم يُسقط، بل أُبعد.
الأكثر فجاجة في المشهد أن القوى التي فشلت منذ 2011 في السيطرة على سوريا، تمكّنت خلال فترة قصيرة جدًا، بعد انتهاء الحرب في لبنان، من احتلال البلاد والإمساك بالحكم. تنظيمات تحمل أسماء متعددة، من بقايا داعش، إلى ما سُمّي بالجيش الحر، إلى فصائل “المعارضة”، تحوّلت فجأة إلى قوة قادرة على الحسم. هذا التحوّل لا يمكن فهمه خارج التوافق الدولي المسبق.
لم يكن المشهد ثورة، بل تسليمًا منظّمًا للسلطة.
لم يذهب النظام ليسقط، بل ليفسح المجال لمرحلة انتقالية مُسيطر عليها.
جاء “الشرع” كواجهة جديدة. قُدّم على أنه البديل القوي، المنقذ، القادر على بسط السيطرة. لكن سريعًا ما تبيّن أن دوره مؤقت. فبعد استعراضات القوة، والقتل، والترهيب، وإعادة إنتاج مناخ الخوف، بدأ بالانقلاب على حلفائه. وهذا ليس تفصيلًا، بل إشارة واضحة إلى أن النظام الجديد لن يكون أكثر من أداة، تُستخدم ثم تُستبدل.
هذه ليست تجربة جديدة. هكذا تُدار الأنظمة الوظيفية في المنطقة
وجوه تتغير
خطاب يتبدل
لكن المشروع واحد
في موازاة ذلك، لا يمكن فصل ما يجري في سوريا عن مسار المفاوضات بين إسرائيل وحماس. فالحرب على غزة، ثم الانتقال السريع إلى طاولات التفاوض، لم تكن تعبيرًا عن رغبة في إنهاء الصراع، بل عن إعادة ضبطه. إسرائيل تفاوض حماس لا لأنها اعترفت بها، بل لأنها أدركت أن إبقاءها في خانة “العدو المُدار” أكثر فائدة من القضاء الكامل عليها.
المفاوضات هنا ليست تناقضًا مع القتل، بل امتداد له بأدوات أخرى.
يُدمّر القطاع، ثم يُعاد فتح قنوات التفاوض.
تُستنزف المقاومة، ثم يُعاد إنتاجها بحجم ووظيفة مناسبَين.
وهذا المنطق نفسه يُسقط على سوريا ولبنان. لا يُراد إنهاء الصراعات، بل إدارتها. لا يُراد انتصار أحد، بل ضبط الجميع.
دونالد ترامب، في هذا الإطار، ليس رجل تناقضات، بل رجل وظيفة. يتغزل بسوريا حينًا، يدعم “الشرع” حينًا آخر، ويمنح الضوء الأخضر لتنظيمات متطرفة عند الحاجة، طالما أن النتيجة واحدة،وهي السيطرة الكاملة ومنع أي صوت معاد من التشكّل.
أما لبنان، فليس خارج الخريطة. المفاوضات مع إسرائيل تسير بهدوء، تحت عناوين “اقتصادية” و”إنقاذية”. الغاز، الإعمار، الاستثمارات. كلمات ناعمة تُخفي تنازلات قاسية، واحتمال تطبيع اقتصادي يُقدّم كحل، لا كخطر. كل ذلك في سياق واحد يهدف إلى كسر فكرة الصراع نهائيًا، وتحويل إسرائيل من عدو إلى “شريك إقليمي”.
ما يُرسم اليوم ليس سلامًا، بل إخضاعًا منظّمًا.
ليس شرقًا أوسط جديدًا بالمعنى التنموي، بل شرق أوسط بلا إرادة، بلا مقاومة حقيقية، بلا صوت خارج السقف المرسوم.
سقوط الأسد ليس انتصارًا للشعوب.
مفاوضات إسرائيل مع حماس ليست اعترافًا بالمقاومة.
والمفاوضات مع لبنان ليست خلاصًا اقتصاديًا.
كلها فصول من رواية واحدة
عنوانها تغيير الأقفاص مع الإبقاء على السجّان
ما يحصل أخطر من حرب.. لأنه يُقدَّم كحل..
وأخطر من احتلال..لأنه يُقدَّم كشراكة
والمرحلة المقبلة لن تكون مرحلة دماء فقط
بل مرحلة تطبيع الوعي مع الهزيمة.



