كتبت اسراء الغامري – الكويت
تبدأ بثينة الكتاب بمقدمةٍ تقولُ فيها إنها بلغت الأربعين، وصارت تنظرُ إلى الوراء أكثر مما تنظرُ إلى الأمام. لكنها في آخر فصول الكتاب ترفقُ صورًا لها، في مجلسِ الأمة، تنكمش على نفسها في توتر، تقربُ إصبعًا من فمها كأنما لتقضمه، وتشبهُ صبيّة في الثامنة عشرة، ترقبُ بتوترٍ نتيجةَ الثانويةِ العامة. صورة أخرى مع رفاقها خارج المبنى، تضمُّ انتصارها إلى صدرها، وتضحكُ ضحكة ذكرتني ببراءةِ ضحكتي في أولِ يومٍ لي في الجامعة. هذه السيدةُ غضّة وفتيّةٌ مثلَ قضيتها، مثل حُلمها، مثل صخرتها التي تحملها طواعيةً نحو أعلى الجبل، وهي تُحاوِلُ أن تتخيّلَ سيزيف سعيدًا.
البداية تشبهُ سردًا مرسلًا لخط سير القوانين المتعلقة بالكتب والرقابة في الكويت قبل وبعد الاستقلال. ربما ستتساءل: ماذا يعنيني في هذا؟ لكنها تُجيد توريط قارئها في قضيتها. لأنها تخبركَ أن المسألة ليست مسألة كتب تمنع أو تجاز في الكويت، المسألةُ هي تحول كل واحد إلى رقيبٍ على غيره وتحول المجتمع من “مُراقَب” إلى “مُراقِب”.
هكذا تتورطُ مع الإنسان في سرديتها، وتقفُ مُنتبهًا لطرحها السوسيولوچي الذي كان -حتى اللحظة- خارج دائرة اهتماماتك.
تأتي “خرائط التيه” التي هي رواية مفصلية في علاقة بثينة بالرقابة وبالكتابة على حد سواء. فهي -على حدِّ وصفها- كانت من قبل تكتبُ داخل حدود البيت، عن نساءٍ يُشبِهنها، الأمرُ الذي أوقعني في كتاباتها عندما تعثرت وأنا مراهقة بروايتها “كبرتُ ونسيتُ أن أنسى”. لكنها في خرائط التيه تعبرُ إلى “الخارج المخيف”، وترتطمُ بالسلطة.
في أروقة البرلمان ووزارة الأعلام وفيث ساحاتٍ شهدت وقفاتٍ احتجاجية هادئة، على خلفية اضطراباتٍ سياسية مخلخِلة، كان بإمكاني -كقارئة وفيّة لبثينة- رؤية طيف جاسم العظيمي ورفاقه، الحالمون الذين يشبهون إلى حدٍّ كبير، بثينة ورفاقها، الذين أنشأوا مكتبةً وعدّلوا قانونًا راسخًا وعتيدًا فقط بجُهدِ الأمل. فهل هذا عالمٌ يتحوَّلُ فيهِ الحالمونَ إلى مرادِم، أم أن بوسع بثينة ورفاقها الانتصارُ في معاركهم الصغيرة؟
في “حارس سطح العالم” تكتبُ بثينة عن رقباءِ الكتب، ربما وفاءً للرقيبةِ التي علَّمتها أن الرقيبَ قد يكونُ قارئًا. تقولُ إن الأجواءَ ألهمتها، وأنا أقفُ طويلًا أمام شخصية “عامر فردان” وأتخيلهُ تمامًا كما تخيلتُ العجوز الذي عرَّف رقيبَ الكُتب على المتاهة. الرجلُ الذي يحاولُ إنقاذَ الكُتب، من قلبِ مركز إدارة الهولوكوست.
هل هو كتابٌ نخبويّ؟
تقولُ بثينة إنها مدينة بروايةِ القصة لأجيالٍ ستريدُ أن تعرفها. في الحقيقة قد يبدو كتابًا نخبويًا، لأن عليكَ أن تعرفَ أسماءَ كفراس السواح وعلي شريعتي ونوال السعداوي وغيرهم، لتدرك لماذا تحارب بائعة الكتب لإجازة كتبهم. لكنك -في ظني- ستعرفُ دون جهد أنها كانت -بتعبيرها- تحارب طواحينَ هواء تمنع كتب رضوى عاشور وغسان كنفاني وإلف شفق!
في رأيي، هي معركةٌ تخوضها، ليس من أجلِ كتبٌ بعينها، إنما لأنني لا أحِبُّ أن أعيشَ في بلدٍ يُصادَرُ فيه “زوربا”. وأنا، كنت قد تحمست لقراءة زوربا بعد حديث بثينة عنه في حارس السطح وقت صدورها. حينها كنت أعاني اكتئابًا حادًا بعد وفاة أمي، وكان زوربا بمثابة يدٍ حنون، أعادت وضع كفي في كف الحياةِ لعقدِ مُصالحة.
إنهُ كتابٌ يقولُ الكثير عن كواليس حياة بثينة خلف الأدب، منذُ “خرائط التيه” وحتى “السندباد الأعمى”.
شكرًا لبائعةِ الكُتب المذهلة، وللطفلةِ الحالمةِ في عيني بثينة.