العالم العربيسياسة

الفجوة الحضارية في الوعي العربي: ازمة حضارة ام انظمة استبدادية ام تنوير وتنويريين؟(1)**

 

كتبت آيات ونوس*

سؤال مثقل بالكوارث الوجودية لإنساننا المعاصر،
الذي وضعه في ساحة المعركة الوجودية،
ان المعركة الحقيقية ليست مع الٱخر الاكثر تطورا" بقدراته الحضارية، انها معركة مع هذا الوعي في اتجاهه التطوري الذي يفجر كل الطرق الحضارية ويقود الى السقوط الوجودي
لم يسبق لاي امة في التاريخ ان وصلت الى هذه الدرجة من الانحطاط، وإنتاج واقع مرعب من  العبودية والتبعية والخمول والذل والتفنن في إنتاج القهر في تلافيف هذا الوعي ،
الذي شكلته معيقات تضخمت على حساب الطبيعة الانسانية لانساننا عبر مئات السنين
وسأقف في هذا المنشور عند أحد اهم هذه المعيقات ، على ان أكملها في الجزئين الثاني والثالث لصعوبة حصرها في منشور واحد، ولضرورة التفصيل، ولترابط هذه الاجزاء في اعطاء الإجابة المتكاملة
اولا: الفجوة الوجودية:
التي تشتمل على الية حركة الفكر الانساني في الإجابة عن التساؤل عن علة الكون وعلاقة الانسان به وبعالميه الطبيعي والاجتماعي ونظرة الانسان إلى كيانه المستقل واهداف وجوده وغايته ، و قلقه الوجودي على مصيره ، عبر رحلة طويلة وشاقة من التأمل والتفكير لإيجاد وسائل تحفظ استمراره وبقاءه، وخلق الامن لوجوده، والطمأنينة على مصيره
هذه الرحلة التي بدأت منذ وجوده في هذا الكون والتي اتسمت في بداياتها بطبيعة ودرجة ادراكه للعالم ،عبر التفكير السحري الذي حاول به الانسان ان يتواصل مع عالمه عبر انسنته للطبيعة وتحميل ظواهرها صفاته البشرية وتقديسها رغبة منه لكسب خيرها واتقاء شرها للحفاظ على بقاءه وللوصول الى تلك العوالم الخفية التي تقف وراءها، للامساك والسيطرة على حركتها عبر طقوس وحركات سلوكية لاسترضائها، وعبر تلك العلاقة استطاع ان يكتشف تدريجيا ادوات انتاجه للتأثير فيها لحفظ بقاءه والدفاع عن وجوده ضدد كل مايهدده   
وعندما استقر الانسان على ضفاف الانهار والسهول واكتشاف الزراعة شكل اولى تجمعاته البشرية الزراعية كانت فيها المرأة هي القوة المنتجة لحفظ البقاء ماديا وجنسيا، وتشكل علاقات مع الطبيعة والجماعة معا قاد الى ايجاد ضوابط للعلاقة بين افراد الجماعات ، وبما ان المرأة كانت تشكل القوة المنتجة لبقاء الجماعة ، فهي التي شرعت الضوابط وتوزيع الادوار والثروة المنتجة على الافراد،  فحازت هذه الضوابط على القوة والقدسية، والرمزية كأداة للتواصل مع العوالم الخفية التي تحكم الظواهر الطبيعة والجماعة ،وبما انها مصدر الخصب والخير والبقاء اصبحت رمزا للٱلهة،يكشف عن تطور في مستوى الوعي الجديد الجمعي للعالم وعلته وظواهره،
عبر منظومة فكرية قدمت تفسيرا عن هذا العالم يستند على مقومات الخصب والعقم والخير والشر في الظواهر الطبيعية والجمعية البشرية اكثر نضجا من التفكير السحري الخرافي
بما تضمنته من رؤية تجمع بين الواقع الذي شعر فيه بالاستقرار،  واثر به عبر انتاجه لشروط عيشه  وبين الخيال الذي يضع فيه تصوراته عن العوالم الخفية التي لم يستطع تفكيره بعد الوصول لحقيقتها ورغباته وطموحاته في الوجود والخلود، فكانت الاساطير هي المنتج الحضاري الاول الاكثرمعرفةو تنظيما وشمولية، والوعاء الوجودي لتقديم خبراته وتصوراته عبرحكايات شعبية كانت فيها المرأة هي القوى المجسدة  لها فاكتسبت صفة القدسية على الوعي الجمعي والفردي،
ومع غزو البدو الرحل للتجمعات الزراعية  والحضرية،  وظهور دور الرجل كمدافع عن الجماعة وحاميها وحامي ممتلكاتها، فالمنتصر سواء غازيا او مدافعا أبرز هذا الدور للرجل ،فأصبح المنتصر جالسا على عرش الجماعة ، ويملك السلطة المطلقة في التشريع الجديد لها، ولكي تثبت له تلك السلطة لابد من وجود اتباع له يشكلون معه جوانب تثبيت السلطة، ولابد له ايضا من فرضها بقوة ا لتقديس،عبر كهنة الٱلهة لإضفاء الشرعية عليها، ولإخضاع جموع العامة لها، وهنا تحولت تحولت الٱلهة الانثوية المتعدة الى ٱلهة ذكرية دفعت بالمرأة الى خلفها، معلنة مرحلة انهاء سلطة المرأة ودورها في الجماعة،وامتلاك السلطة بامتلاك كل منتجات الانتاج والسطوة عليها،  ومع تراكم الثروة بأيديها ،وازدياد حاجات الرفاهية ،
ظهرت الحاجة الى ادوات انتاج جديدة وقوى مادية منتجة، افرزت معها مجتمعا طبقيا يقوم على العبودية، وتقسيم العمل الى عمل جسدي تنتج حاجات البقاء وحاجات الرفاهية تقوم بها طبقة الصناع والزراع  ، وعمل فكري لإدارة شؤون الحكم ، من طبقة الحكام والنبلاء والمنظرين لسلطة الحكام، ورجال الدين المدافعين عنها عبر تشريعات تحمل طابع الارادة العليا المقدسة ، الواجب اطاعتها، وظهرت بالتوازي الاساطير التي تمجد القوى الخارقة وتبرزصراع الالهة بين الهة الخير والشر التى تملك السيطرة على هذه القوى وتكشف قدراتها المغيرة للوجود ،
عبر اشاعتها بين العامة بشكل حكايات مقدسة تخضع لها العقول والنفوس وتتستأثر بقلوب سامعيها مما جعلها تكتسب صفة القدسية والخلود والمصداقية المطلقة، مما سهل توارثها عبر الاجيال ، لترتقي الى الحقيقة المطلقة،
التي تمنح المعرفة المقدسة، والطمأنينة الوجودية
هذه الارهاصات المادية والروحية الاسطورية، كانت البذار الاولى لنشوء الامبرطوريات والاديان الارضية اولا ثم السماوية  وظهور الفكر الفلسفي التأملي الذي حاول ارجاع الكون الى علة واحدة كانت مادية طبيعية في بداياتها كالماء والنار والهواء والتراب او تحولها الى رمزية وجودية روحية تفسر خلق الكون من العناصر الحيوية الاولى للوجود، التي بدأت تتجسد في الاديان ،
ان قدرة الانسان على التأمل والتأثير في عالمه الطبيعي والاجتماعي واكتساب بعض المعارف والخبرات جعلت الانسان يرتد لذاته ليكشف قدراتها الطبيعية لحفظ البقاء والفكرية لخلق عالم فكري يضع  فيه كل تصوراته عن عالمه الطبيعي والاجتماعي والفردي، وخلق عالم روحي يحمله اهدافه ورغباته في استمرار وجوده، ومخاوفه من المجهول التي لم يزل رابصا على وجوده، لزرع الطمأنينة وخلق وهم خلوده عبر الاساطير والاديان،
ان تطور وعي الانسان من مرحلة التفكير السحري الى الاسطوري الى الديني والفلسفي والعلمي يكشف ان هذا الفكر عكس التطورالمادي الموازي لقدرته على بسط نفوذه في الكون وخلق ادوات انتاجه وشروط علاقاته مع الطبيعة والمجتمع من بني جنسه
وهنا عندما تغلق الفجوة الوجودية عند الانسان، عند شكل من اشكال التفكير  وتتخلف عن مؤازرة التطور في انتاج الحاجات المادية والمعرفية ينحرف هذا الوعي عن مسار تطوره الى انتاج وتضخيم الوعي الذي اغلق فكره علية مما يشل حركته في التأمل والانتاج والابداع، ويصبح ذلك الوعي المسجون اداة خطرة بيد ايادي السلطة السياسية والاجتماعية والدينية لابقاء هذا الوعي بعيد عن اداء دوره في التطور والتغير نحو الافضل،
وهذا ينتج مجتمعا متخلفا حضاريا عن ركب التطور بوعيه  وانتاجه ويصبح عرضة لانتشار الجهل والعبودية، على مستوى الوعي الجمعي والفردي الذي سيعيد من جديد انتاج قهره وعبوديته
لذلك لابد وفاعليته فتح نوافذ هذا العقل المقيد بالوهم والخرافة والاساطير بالمعرفة والعلم والتنوير لتنشيط وظائفه في التفكير ،وفاعليته في التغير ،
وذلك عبر إخضاع هذا الوعي للنقد وتنقية هذا الارث المثقل من ادواته التزويرية وتعطيل مفاعيل رمزيته الوهمية واعتباره مرحلة من مراحل وعيه لعالمه في سياقه التاريخي، الذي لم يعد صالحا لواقعه المعاصر ، وعبر  الحفاظ على الايمان الروحي، لخلق الطمأنينة الوجودية على استمرار بقاءه وحفظ مصيره
ولتكون ملهما لعلاقات روحية أخلاقية وجمالية واجتماعية وفكرية سامية مع عالمه الطبيعي والانساني لإثبات شكل افضل لوجوده
ان الفجوة الوجودية لايمكن ان تفتح نوافذها الا بنور المعرفة التي باتت اليوم بمتناول الجميع، والتي تساهم في تواصله مع المجتمعات الانسانية، والاستفادة من منجزات حضارتها ، وضرورة التشاركية معها ، لبناء مجتمع اكثر انسانية
*كاتبة وباحثة -سوريا
** في الجزء الثاني من معيقات التنوير

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى