سليم الحص.. صفة لا موصوف (نجيب نصر الله)
بقلم نجيب نصر الله – خاص الحوار نيوز
تعددت صفات الرئيس سليم الحص وتنوعت، من الضمير إلى النزيه إلى العفيف إلى الزاهد إلى النبيل إلى… آخر ما قُدّر لقاموس الثناء أن يحوي من مفردات إشادة وعبارات احترام. لكن سليم الحص ظل هو نفسه سليم الحص. بل صار الصفة التي تسبق الموصوف وتليه.
تنوعت «مناصب» الرئيس سليم الحص الرسمية والشعبية، لكن سليم الحص بقي هو نفسه، سليم الحص، الذي انفرد بكونه واحداً من قلّة ترفع من شأن المنصب لا العكس ولا غيره.
مع «الطائف» وما تلاه، جيء إلى السلطة بمن جيء من أمراء حرب وسماسرة مال وتجّار حروب، فانقلبت الأحوال وتغيّرت «التحالفات» وسيطرت الغرائز وعمّ الطمع وساد الجشع وسقطت الأقنعة وشاعت «القطيعية»، لكن سليم الحص بقي هو نفسه سليم الحص صاحب المبادئ، ورجل القناعات، العابر للانتماءات والعصبيات: الوطني الذي لا يساوم، والعروبي الذي لا يهادن، والمقاوم الذي يأبى التخلّي عن الحقّ، وفي مقدّمه الحقّ الفلسطيني والعربي باستعادة فلسطين من البحر إلى النهر.
إنها استثنائية الحص ويندر أن تتكرر. بل أن تكرارها يحتاج إلى ما يشبه المعجزة. وكيف لا يكون الأمر كذلك ونحن في خضم زمن لبناني وعربي تلمع فيه الخناجر وتتراجع فيه السيوف وتسيطر فيه الضغائن وتتناسل فيه العصبيات وتشتعل فيه الفتن… ومع ذلك فإن الإجماع الذي شهدناه على استثنائية الراحل هو، في الواقع، تأكيد على المؤكد الوطني والقومي والإنساني والقيمي والأخلاقي الخاص بالرجل، وهو مؤكد مسجّل ومعروف وموثّق.
بل أن ما يزيد في استثنائية هذه الشخصية أنها نتاج سويته الأولى ليس إلا. وهي سوية بلورتها الأيام وصقلتها كأفضل ما تكون البلورة ويكون الصقل. استثنائية لم تتلوث لا برثّ الكلام السياسي ولا بسقط الأفعال الناجمة عنه. والحق أنه لولا هذه السوية الصميمية، البعيدة عن التكلّف، لما تيسر له التربع على عرش التقدير والاحترام الملازم له. إنها، في واحدة من الخلاصات، السوية التي ساهمت في فضح حقيقة ما يسود اجتماعنا الهشّ من ضحالة وضآلة تجعل من العادي خارقاً، ومن الطبيعي استثناء.
نعم، ليست السوية التي ميزت الحص بالأمر الخارق ولا بالمستحيل. لكن في منطقة مثل منطقتنا التي نعيش فيها يصبح الأمر كذلك فعلاً. إنها الحقيقة المرّة، لكنها في الوقت نفسه، الحقيقة التي لا تنتقص البتة من مكانة الرجل وفرادته. إنه الرجل الذي يُسجّل له إضافة الحضور وإضافة الفعل وإضافة التأثير وإضافة الإلهام وإضافة المعنى وإضافة الديمومة. كما أنها الحقيقة التي تدل على مدى الخواء الذي آلت إليه أحوالنا، ومبلغ الانحطاط الذي صرنا إليه لبنانياً وعربياً وحتى عالمياً. ومن شأن نظرة محايدة على المشهد العربي العام أن تدلنا على مبلغ القعر الذي صارت إليه أحوال هذا الاجتماع المرصود للتفاهة ومعها البلاهة المستوردة من صحراء العفن والأسن الوهابي المقيت. إذ لا يمكن أن يكون هناك قعر أعمق من قعر الصمت المدوي، «العربي» الشعبي قبل الرسمي، على فصول الإبادة الجارية، على مقربة كل واحد منا، في فلسطين.
استثنائية الحص لم تتأت من خوارق الأعمال بل من سوية إنسانية وأخلاقية «كريستالية». إنها استثنائية الصادق في القول والعمل، إنها استثنائية المترفع عن المكاسب، إنها استثنائية الباحث عن العدل والعدالة والساعي إليهما، إنها استثنائية المسؤول الذي لا يريد شيئاً لنفسه، إنها استثنائية صاحب المبادئ وصانع القيم وحافظها. إنها استثنائية السياسي اللبناني والعربي الذي واجه عواصف الطائفية وأعاصير المذهبية وزوابع الخيانة والارتداد والتخلي. ومع ذلك، فإنها، في الحقيقة ليست بأكثر من سوية الإنسان السوي وبداهة فطرته السليمة.
يمضي سليم الحص تاركاً للمهتمين الفعليين وهم، ومن دون أدنى شك، قلة قليلة ما زالت تحلم وتقاوم. يمضي سليم الحص واثقاً مطمئناً إلى أن الأفكار التي سكنت عقله قبل فؤاده في أيد دافئة وأمينة. وكيف لا يفعل وهي الأيادي نفسها التي خبرها يوم حررت الأرض وصانت إنسانها، فكان على رأس من احتفلوا بها ومعها. كيف لا يفعل وهو من رآها رأي العين وهي تقبض في اليوم التالي لـ «الطوفان» المجيد على البندقية دعماً لفلسطين وإسناداً لها.
طبعاً، وكما هي العادة مع مناسبات الفقد الكبير سنقرأ وسنسمع وسنشاهد الكثير من الإنشاء الركيك عن فرادة الرجل ومدى استثنائيته وجلل الخسارة التي خلفها، ولكن الواقع أن لا أحد من هؤلاء سيكلف نفسه عناء التمثل ولو بواحدة من خصال الرجل أو مزاياه الكثيرة، وهي الخصال والمزايا التي صنعها بقدر من صنعته وألهمها بقدر ما ألهمته، وكل ذلك بدأب المناضلين وجسارة الثوار وحمية الشجعان ونبل الأحرار واستقامتهم.
لا لم يكن الحص في أي يوم من الأيام ضعيفاً، ولا حتى خلال مرضه. لكنه، والحق يقال، كان وحيداً. ومع ذلك، وبرغم ثقل المسؤوليات التي تجند لها فإنه لم يهادن، ولم يساوم ولم ينزلق إلى القعر الأخلاقي والقيمي الذي مثلته تلك الحفنة من شذاذ الآفاق والطامعين الذين جيء بهم مطلع تسعينيات القرن الماضي فجعلوا يروجون لقيم البلاهة والتفاهة والاستهلاك… ولأنه كان كذلك ما كان قادراً على مجابهة الهجمات، ولا ردها. فكان أن اكتفى، مرغماً، بالدفاع وحماية ما يمكن حمايته من خلال ما كان متاحاً من أشكال عمل وحدوي ووطني وقومي، قبل أن يلوذ بصمت لم يكن يقطعه إلا تصريحات الانتصار للمقاومة ومواقف الدفاع عن فلسطين.
سليم الحص رجل سكنه الحق وسكنته الحقيقة.
سليم الحص مقاوم لبناني وعربي سكن فلسطين وسكنته قضيتها.
ولعل أكثر من سيفتقده، اليوم، بالإضافة إلى ابنته وداد وحفيده سليم وما تبقى من أصدقاء يعدون على أصابع اليد الواحدة، هم المقاومون في لبنان وفلسطين وسوريا واليمن وباقي البقاع العربية القابضة على جمر الانتصار لفلسطين، والمصرون بالرغم من كل المعوقات، على استعادة الحق السليب، وتصويب بوصلة التاريخ التي انحرفت بأكثر من اللازم، لكنها، مع ذلك، تبقى من نوع الانحراف «الخلدوني» القابل للتصحيح إن لم يكن اليوم فغداً أو بعده، وهو وعد المقاومين وسيدهم القائد الظاهرة، حسن نصرالله، لراحلهم الكبير سليم أحمد الحص ابن بيروت التي عصت على الاحتلال وعصمت شرف الوطن يوم احتضنت ولادة المقاومة ولاحقت من تسلل منهم إلى شوارعها وأحيائها.
سليم الحص، وداعاً.