د. عدنان عويّد* – الحوار نيوز
التراث هو تلك الثروة الفكريّة والماديّة الكبيرة التي اكتسبتها أمّة ما، وحققت عبر تاريخها الطويل، حالات من التمايز تختلف عن بقية الأمم. أما مضامين هذه الثروة فهي مجموع الفنون والمأثورات الشعبيّة الأدبيّة منها والفنيّة والفلكلوريّة ومن شعر وغناء وموسيقى ومعتقدات شّعبية وقصص وحكايات وأمثال تجري على ألسنة العامة من الناس، وعادات الزواج والمناسبات المختلفة وما تتضمنه من طرق موروثة في الأداء والأشكال، ومن ألوان الرقص والألعاب والمهارات. يضاف إليها ما تركته هذه الآمّة من تراث فكري وعقيدي ومن أوابد معماريّة ووسائل إنتاج وأدوات أخرى استخدمت في النشاط الحياتي لهذه الأمّة.
وللتراث الفكريّ مستوياته وأقسامه المعرفيّة التي اختزلها أو نمذجها “محمد عابد الجابري” في كتابه (بنية العقل العربيّ)، في أربعة أنساق فكريّة، وهو محق في ذلك برأيي، حيث استطاع نمذجة هذا العقل نظريّا، ما بين عقل بياني، وآخر عرفاني، وآخر برهانيّ، وأخيراً عقل سياسي. وإذا كان العقل البياني قد تركز في اللغة وما تتضمنه من تشبيه واستعارة وتمثيل ونحو وغيرها، ثم دور هذه اللغة بكل مفرداتها في الاشتغال على ظاهر النص المقدس تأويلاً وتفسيراً وفقهاً وغير ذلك، فإن العقل العرفانيّ، هو العقل الذي اشتغل عليه المتصوفة والشيعة في قراءتهم وتأويلهم للنص المقدس (القرآن) ذاته، والبحث في مضامينه عن كل ما يمنحهم القدرة والثقة على التأويل والتفرد في فهم النص، انطلاقاً مواقف فكريّة وجوديّة مثاليّة من الأرض والسماء معاً، وأهم ما في المواقف الصوفيّة الوجوديّة على سبيل المثال لا الحصر هو أكراه المتصوف لجسده واقصائه عن عالمه الماديّ، أي الحياتيّ، ليتفرغ للروح وتنقيتها من أوساخ الواقع المعيش، والارتقاء بها إلى مصاف المطلق (الله)، هذا الارتقاء الذي وصل عند كبار شيوخ المتصوفة إلى الاتحاد أو التوحد مع الله، كما فعل الحلاج والسهروردي والبسطامي وذو النون، ولكن مشكلة هؤلاء المتصوفة العرفانيين الكبار من الناحية الاجتماعيّة والسياسيّة أنهم كانوا مع الفقراء، وهذا ما جعل السلطات الحاكمة ومشايخها يلاحقونهم وينكلون بهم تحت ذريعة الانحراف العقيديّ والخروج عن الملّة والزندقة.
أما العقل البرهانيّ فهو العقل الذي اشتغل على العقل النقدي ودوره ومكانته في حياة الإنسان، هذا العقل الذي تجسد دوره في التراث العربيّ الإسلاميّ أيضاً في العمل على إعادة قراءة وتأويل النص المقدس، ولكن من خارج عالم الخيال والأسطورة والكرامة الذي اشتغل عليه المتصوفة. لقد تأثر هذا العقل في سياقه العام بالفكر الفلسفيّ اليونانيّ (المنطق الأرسطيّ) بشكل خاص، أي بأساليب قياسه واستنتاجاته واستقرائه واستدلاله وأحكامه المنطقيّة، فظهر من خلال التعامل مع هذا العقل البرهانيّ، مجموعة من المفكرين والفلاسفة الإسلاميين الذين كان العقل النقديّ منهجاً لهم في التعامل مع واقعهم المعيش أولاً، ومع تفسير النص المقدس وتأويله وفقاً لمصالح الناس وليس لمصالح الحكام، الأمر الذي جعل الحكام ومشايخهم يقفون لهم بالمرصاد دائماً، حيث عملوا على حرق كتبهم واقصائهم وطردهم من الحياة الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة، ولم يتوانوا حتى في قتل بعضهم، فالذي جرى لغيلان الدمشقي ولابن المقفع وابن رشد في العصور الوسطى على سبيل المثال لا الحصر، جرى لطه حسين وعلى عبد الرازق ولفرج فوده ولحامد أبي زيد وجلال العظم في تاريخنا الحديث والمعاصر.
أما العقل السياسي فقد تركز على مفهوم الخلافة وصفات وسمات الحاكم الأخلاقيّة والجسديّة، وكذلك التركيز على كيفيّة وصول الحاكم إلى السلطة وما هو موقف الرعيّة منه، وضرورة طاعته وغير ذلك، ومن الذين اشتغلوا على ذلك “الماوردي” في كتابه (الأحكام السلطانيّة)، و”بدر الدين بن جماعة” في كتابه (تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام). و”ابو يعلى الفراء” في كتابه (الأحكام السلطانيّة).
وعلينا أن نشير إلى أن العقل البرهانيّ لم يقتصر اشتغاله على قضايا النص المقدس فحسب كما بيّنا أعلاه، وإنما اشتغل أيضاً على قضايا علميّة وانتربولوجيّة، كما اشتغل على علوم تتعلق بالكيمياء والفيزياء والبصريات والرياضيات والطب والزراعة والاقتصاد وعلم الاجتماع والفلسفة وغير ذلك، ولكن السلطات الحاكمة ومشايخها من الذين انكروا هذه العلوم التي تقوم على تسخير العقل في المعرفة، حاربوا هؤلاء الفلاسفة والعلماء كما أشرنا قبل قليل.
هذه هي بنية العقل العربيّ، التي خيم عليها العقل البيانيّ والعرفانيّ والجبريّ منذ مئات السنين حتى تاريخ، هذه البنية الفكريّة المفوّته حضاريّاً، لم تزل تخلق في عالمنا العربي المعاصر (أسرى الوهم)، هذا الوهم الذي تحول بدوره بفعل القوى السياسيّة الحاكمة المستبدة ومشايخها وبعض تيارات الإسلام السياسي صاحبة مشروع الحاكميّة إلى ايديولوجيا، راحت تُفرض فكريّاً وسلوكيّاً على المواطنين من قبل سدنة المعبد والحقيقة المطلقة ومستلبي السلطة.
إذن إن “أسرى الوهم”، أي أسرى من سخروا الأيديولوجيا الدينيّة المغلقة، مِنْ مشايخ السلطان ومِنْ مَنْ امتلكتهم شهوة السلطة من الحكام المستبدين، لمسح عقول الرعيّة وأسرها وتعبئتها بمفاهيم دينيّة وشروحاتها وطقوسها ورموزها، ووعودها بتعويضهم بالفردوس عن ما عانوه ويعانوه من حرمان في واقهم المعيش، هذا الفردوس الذي سيجدون فيه ما يشتهون من خمر ولبن وعسل وحور العين وسندس واستبرق وقصور فارهة تجري من تحتها الأنهار، الأمر الذي جعلهم يدورون في فلك الماضي، بحثاً عن معرفة طريق الوصول إلى هذا الفردوس الذي وصفته لهم الكتب الدينيّة وعقائدها وشروحاتها كما قدمها قدمها مشايخ وفقهاء العصور الوسطى.
فأسرى الوهم لم يعد لديهم حاضر يعيشونه ويعملون على تطويره وتنميته وتحقيق جنة الأرض عليه، وإنما ربطوا حياتهم كلها في المستقبل، أي في جنة السماء، حيث اُعتبرت حياة الحاضر عندهم دار رذيلة وشقاء وفساد يجب أن تهمل أو تترك، والعمل فقط من أجل المستقبل المفتوح على المطلق، بدل من تغيير واقعهم الفاسد الذي أفسدوه هم أنفسهم بما كسبت أيديهم. وهم بسلوكهم وتفكيرهم الانهزامي هنا، قد ابتعدوا حقيقة عن مقاصد الدين الأساسيّة التي تركز على الأرض وإعمارها، والعيش على هذه الحياة بسعادة كما يريدها النص المقدس ذاته، وهذا ما سيوصلهم إلى المستقبل المنشود بأمان إذا أرادوا.
ملاك القول في هذا الاتجاه هو أن أسرى الوهم الدينيّ يعيشون حياتهم محاصرين بماضٍ يعتقدون أن فيه يوجد طريق الخلاص الأبديّ، ولا بد من العودة إليه دائماً وتمثله فكراً وسلوكاً، وبحاضرٍ يتطلب منهم رفضه أيضاً رغبة في تحقيق ما وعدهم به هذا الماضي نفسه في المستقبل. هذا الماضي الذي أصبح بالضرورة المنطلق الوجوديّ والمعرفيّ المقدس لهم، وكل محاولة للخروج منه أو عليه حباً بالحاضر الفاسد، هو تحدٍ لهذا المقدس وما يمثله، وهذا التحدي سيُدخل صاحبه في خانة الردّة والكفر والزندقة والالحاد وبالتالي البدعة التي ستحرمه من جنان الخلد لاحقاً، كما علمهم مَنْ جعلوا أنفسهم أوصياء الله على هذه الأرض، وهم بعض مشايخ الدين، أو ما نسميهم بسدنة الحقيقة المطلقة كما أشرنا في موقع سابق، هؤلاء الذين راحوا يمارسون قمعهم الوعظيّ على المتدينين حتى لا يخرجوا عن عالم ما رسمه لهم من فسروا الدين وأولوه من تجار الدين خدمة لهم ولأسيادهم، تارة بالترهيب، كعذاب القبر وعذاب جهنم بكل ما فيها من وسائل التنكيل، كالتعذيب بالنار والزمهرير والحديد.. الخ. أو بالترغيب، كوعدهم بجنة تجري من تحتها الأنهار، فيها كل ما تشتهيه النفس الإنسانيّة وفي مقدمتها حور العين والخمر كما بينا قبل قليل.
على العموم: إن ثقافتنا في سياقها العام لم تزل ثقافة شفويّة، وهي في أس جذرها وأصولها وامتدادها، ثقافة الأجداد (الأسلاف) الذين لم يتركوا شيئاً للأخلاف إلا وقالوا به، وحددوا الحلال فيه والحرام، أو الصح والخطأ، ومارسوا جرحهم وتعديلهم على نمط شخصياتهم السلبيّة منها والايجابيّة فكراً وممارسة، ليس لعصرهم فحسب، بل ولكل العصور اللاحقة، أي اعتبار ما قالوا به ومارسوه هو المنطلق الوجوديّ والمعرفيّ لكل ما هو تال.
أمام هذا العقل العربيّ، وثقافته الشفويّة المفوّته حضاريّاً والرافضة بإصرار لكل ما يمت إلى الحداثة عدا حداثة الترفيه وإشباع الغرائز، يأتي السؤال المشروع هنا وهو: أي ثقافة نستهدف، وعلى أي ثقافة نتكئ.؟
نحن اليوم أمام كل حالات التخلف التي نعيشها وخاصة التخلف الفكريّ المشبع بالهجانة والنقل، والبعيد إلى حد بعيد عن معظم مناهج التفكير والبحث العقلانيّ المعاصر، الأمر الذي يفرض علينا بالضرورة أن نبحث في عالمنا العربي عن القوى الاجتماعيّة المنسجمة مع ذاتها فكراً وممارسة..عن قوى اجتماعيّة مؤمنة بأوطانها وبالمواطنة ذاتها، قادرة على رسم الحلول العقلانيّة لتجاوز مأزق واقعنا المتخلف من خلال الوقوف بحزم أمام المرجعيات التقليديّة من عشيرة وقبيلة وطائفة ومذهب لم تزل تسيطر على خطابنا السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ.. قوى اجتماعيّة مؤمنه بالفكر العقلانيّ التنويريّ الذي يحترم الإنسان وعقله وحريّة إرادته، وأنه هو سيد قدره، والمؤمنة بالدولة المدنيّة القائمة على المؤسسات والقانون والتعدديّة. ربما ما أقوله هنا يشكل وصفة سحريّة عند من سيقرأها، وهذه حقيقة نعيشها تحت مظلة التخلف والاستبداد الذي نحن فيه، ولكن لا بد من الاشارة إلى الحلول، لعل من هم في موقع السلطة اليوم يحسون بآلام شعوبهم ومعاناتهم بالبحث عن هذه القوى التنويرية، وهي موجودة في مجتمعاتنا العربيّة، بدلاً من احتضان المطبلين والمزمرين الذين أوصلوا البلاد والعباد إلى حافة الانهيار. ولقد صدق الخليفة عثمان بن عفان عندما قال : (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع في القرآن). ففي حالات التخلف الذي تعيشه المجتمعات، يعوّل كثيراً على السياسة في تحقيق تجاوز هذا التخلف، وهناك تجارب عديدة مرت بها بعض الشعوب عندما توفر لها حكام شرفاء يومنون بشعوبهم ومستقبل بلادهم ورقيها.
*كاتب وباحث من سوريّة