د.رولا أبو شقرا*- خاص الحوار نيوز
قال أحد الكتبة: ” نصف أهلنا ماتوا بالحرب أتريدون إعادتها لأجل شهداء المرفأ “؟ فيأتي التعليق عليه سريعا: ” شو قصدك إذا أهلنا ماتوا بالحرب ممنوع نطالب بالعدالة”؟
في الواقع، لم يدرك كاتب هذا الكلام، إن ما تفتق عنه ذهنه الفذ يصب في صالح “خصومه” الذين يتوجه إليهم بالسؤال، فهو قد حسم ان هذا الخصم يستميت في الدفاع عن عدالة قضية المرفأ لذا فهو مستعد لأن يشعل من أجلها حربا، كما ان قوله هذا يبطن تهويلا وتهديدا مفاده: ” إذا لم تغلقوا قضية المرفأ وشهدائه فإن حربا جديدة ستشتعل وسيذهب ضحيتها اعداد كبيرة من الناس “.
اخترت هذا الموقف والتعليق عليه، كأنموذج للنزاعات التي تستعر كالعادة على إيقاع الشارع على مواقع التواصل الاجتماعي، فالاصطفاف جاهز، بصرف النظر عن الحدث ومجرياته ودلالاته، وهو على مستويين: الاول طائفي-مذهبي-فطري يكون محددا بانتماء الكاتب الطائفي او المذهبي والثاني يصبح طائفيا مذهبيا في سياق استخدامه أي ان الكاتب يكون منحازا في التحليل لطرف طائفي ضد اخر وبالتالي فهو يستخدم في حرب الحجج الدائرة بين الطرفين.
تشكل الآراء المنشورة بغزارة على هذه المواقع، مظهرا من مظاهر الشحن الطائفي والمذهبي الذي بدا في مسار تصاعدي بعيد حراك 17 تشرين بالرغم من كل المظاهر التشرينية التي روجت لصورة الوحدة الوطنية في مواجهة سلطة الفساد. تحت الرايات اللبنانية الموحدة والالقاب التي أعطيت للمدن لاحت المخاوف من صراعات مذهبية وطائفية انطلاقا من منصات التجييش المختلفة “للثورة ” وبدأت لغة الشارع تكشف عن ان الفقر والجوع ورفض الفساد ليسوا فحسب “محرك” قسم كبير من المحتجين الغاضبين. في المقابل، فقد أهل السلطة في أجواء تشرين لحمتهم التكتيكية بعد ان اجتمعوا او صمتوا عقودا عن نهب مقدرات البلاد وخيراتها فحاولت بعض القوى المسيحية التنصل من ممارسات السلطة فكان هذا التنصل رداء لخطاب طائفي متجدد سرعان ما أخذ يظهر للعلن فتم التصويب على حزب الله الذي حمّل وحده “المسؤوليات الجسام” عن اوضاع البلد، لذا فقد اعتبر الأخير ان “ثورة تشرين ” ليست الا مؤامرة كبرى ضده يقودها الخصوم في الداخل والخارج. لقد طمس التطييف اذن البعد الاقتصادي-الاجتماعي للحراك وانفكت الاعلام اللبنانية المتلاحمة ولم يعد الشارع يلبي بالكثافة المطلوبة نداء الوحدة واختلط حابل جماهير الأحزاب بنابل ” العلمانيين ” ولم يعد أحد يعرف ماذا يجري على الأرض ومن يتحكم بقرارات التحركات وشكلها ومداها! خابت ظنون الكثيرين فانكفأوا. إن ثوب الطائفية “لم يخلع “، ولا بدائل جاهزة يعول عليها، فأجهض الامل بالتغيير. وظلت أجواء الشحن تتزايد مع تزايد الافقار وانهيار سعر العملة الوطنية، وظل ارباب الطوائف يتبارون في تقاذف المسؤوليات او محاولات إيجاد حلول موقتة لازمات مستعصية.
ومع الانهيار التدريجي لحضور الدولة، عبر المؤسسات الخدماتية بشكل خاص، والفاقة الشديدة التي عانت منها ولم تزل شرائح واسعة من اللبنانيين بدا وكأن ملف الفساد طوي الى غير رجعة وبات الناس مجبرين على تعليق امالهم على السلطة نفسها- التي سرقتهم -لإنجاز “إصلاحات الامر الواقع” وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من فتات حياتهم ومدخراتهم. وتبدت الحاجة أساسية الى المرجعية الطائفية، القابضة على البلاد، على المستوى المعيشي اليومي كما لتحديد بوصلة الموقف والنظرة للوضع السياسي.
لم يحرك انفجار المرفأ، الذي اخترق كالزلزال إيقاع تدرج الانهيار، الشارع، كما حرك رادارات السلطة التي تترصد الاحداث لاستخدامها في معارك نفوذها، وبالطبع لا يستقيم أي نفوذ الا بشيطنة الاخر وبشحن “الانتماءات البدائية “. المعركة كانت هذه المرة في ساحة القضاء فالانقسام الطائفي حول القضية كان جليا والتعامل مع التحقيق مثّل صورة عنه. التحقيق سيس في مسار الخلاف عليه وفي التدخل الدولي الذي بلغ مداه بالبيان الصادر عن الكونغرس الأميركي، فظهر خلف الدفاع عن استقلال القضاء التوق الشديد للاقتصاص من جهة بعينها فبات هذا الدفاع والتمسك بالقاضي المكلف من الطبيعة نفسها لرفض مسار التحقيق أو الدعوة لتنحية القاضي بحجة التسييس.
لقد جاءت “موقعة “الطيونة-عين الرمانة في هذا السياق، ولا يمكن قراءتها فحسب بالتحقيق التفصيلي في مجرياتها الميدانية : من البادئ؟ من القاتل؟ كيف تدرجت الأمور؟ بالتأكيد ثمة مسؤولية بهذا المعنى يتحملها طرف بعينه وهو يعترف بها على أي حال. لكن الأهم ان هذه الاحداث اتت نتيجة حتمية لوصول الممارسة السياسية للطوائف لذروة العدوانية شحنا للنفوس وشدا للعصب قبيل انتخابات مفترضة، بعد ان فرغت جعبة هذه القوى من وعود كانت تفرض كالخوات على هيكل الدولة الشكلي الهش. فلم يعد هناك الا الاشتباك المسلح ليعيد الى القطيع الطائفي من سولت له نفسه التفلّت من منطقه أوحتى القيام بمحاولة على الأقل.
في حمى التطييف، حاول كل فريق معني بالواقعة بشكل مباشر او غير مباشر الاستفادة مما جرى وان بصور متفاوتة، من المفاخرة بدور “البطل “ضد الحزب القوي، الى الطهرانية وإعلان رفض لغة الدم وصولا لرفع راية “المظلومية”. خلاصات مواقف تترك بصمات ملحوظة على منعة الانتماء الطوائفي-الحزبي. لا شك ان ارصدة الرابحين متباينة، لكنهم ربحوا ، اما الخاسرون فهم من قضوا وأهالي الضحايا الأبرياء او من تضررت ممتلكاتهم في زمن القحط الذي نعيش.
انها موقعة الموت المجاني، لا قضية لها على الاطلاق بل تمثل محاولة لتكريس وممارسة منطق الإلغاء الطوائفي المستعاد والخطر. واجزم ان أي طرف في لبنان غير قادر، لا سيما في هذه الظروف، على تحمل تبعاته، الا إذا كان قرار اشعال فتيل الحرب قد اتخذ خارج الحدود.
*أستاذة جامعية
زر الذهاب إلى الأعلى