إعلامثقافة

مسار تعميق الفكر عند الشباب في العصر الرقمي (ميلاد السبعلي )

 

كتب د. ميلاد السبعلي – الحوارنيوز

نحيى اليوم في عصر التدفق المعلوماتي الهائل، حيث أصبحت المعلومة في متناول الجميع، ولكن في غياب القدرة على التحليل والنقد والتفكير العميق، تصبح هذه المعلومات مجرد ضوضاء رقمية تفقد معناها. مع تصاعد هيمنة التريندات، وسطحية الطرح، والاعتماد على المحتوى السريع، يواجه الشباب تحديًا غير مسبوق: كيف يمكنهم التمييز بين الحقيقة والوهم؟ كيف يمكنهم بناء فكر متماسك وسط الضوضاء الرقمية؟

فالثقافة ليست ترفًا، بل هي المعركة الحقيقية ضد الجهل، والتبعية، والانحطاط الفكري. لذا، يصبح مسار الإدراك، والوعي، والمعرفة، والحقيقة ضرورة لتحصين الشباب من الانزلاق نحو الاستهلاك الفكري العابر، وتوجيههم نحو نهضة حقيقية تجعل منهم فاعلين في مجتمعاتهم، لا مجرد متلقّين سلبيين.

1. الإدراك: بداية الوعي في عالم مشوّه

الإدراك هو القدرة على رؤية الواقع كما هو، لا كما يُراد لنا أن نراه. في العصر الرقمي، تُصنع الصور الذهنية للشباب عبر الخوارزميات ووسائل الإعلام و”المؤثرين”، مما يجعل من الصعب التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مصطنع.

كيف ننمي الإدراك؟

• التشكيك بالمصادر والمحتوى → بدلاً من قبول أي معلومة تظهر في “التريند”، يجب أن يسأل الشباب: لماذا يتم الترويج لهذه الفكرة الآن؟ ومن المستفيد منها؟

• استخدام المنصات الرقمية بذكاء → يمكن توجيه الخوارزميات لخدمة الثقافة من خلال متابعة المحتوى المعرفي والفكري بدلًا من المحتوى السطحي، مما يغيّر طبيعة المحتوى الذي يصل إلى المستخدم.

• تحليل الظواهر الرقمية لا الانجراف معها → لماذا تصبح بعض المواضيع “تريند” فيما يتم إسكات أخرى؟ الإدراك يعني تجاوز السطح ورؤية الأبعاد العميقة للخبر أو الفكرة.

ولتحقيق ذلك، لا بد من فهم طبيعة الميديا الجديدة وسلوك الشباب داخلها. لا يمكن نشر الثقافة اليوم بأساليب تقليدية جامدة، لأن طبيعة الاستهلاك المعرفي تغيرت.

كل منصة لها طريقتها في جذب الشباب:

• تطبيقات TikTok وInstagram: محتوى سريع، بصري، قصير ومؤثر.
• تطبيقات YouTube وPodcasts: مساحة للمحتوى الطويل والتحليل العميق.
• تطبيقات Twitter وFacebook: أدوات للنقاش والجدل الفكري والتفاعل.

✦ يجب على المشاريع الثقافية أن تتكيف مع هذه الأدوات وتوظفها لإيصال رسائل فكرية قوية بطريقة تناسب كل منصة، بدلًا من مقاومة التغيير والانغلاق ضمن الوسائل التقليدية.

* تطبيق عملي: يمكن استغلال منصات التواصل لإنشاء نقاشات نقدية حول التريندات السائدة، بحيث لا يكون الشباب مجرد متلقّين بل يصبحون مفكّرين قادرين على التحليل والتفسير.

فالإدراك إذاً هو الخطوة الأولى لفهم الواقع، ومن دونه يبقى الإنسان تائهًا بين الأفكار المتناقضة دون بوصلة.

2. الوعي: عندما يتحول الإدراك إلى موقف فكري

الإدراك وحده لا يكفي، بل يجب أن يقود إلى وعي نقدي. فالوعي لا يقتصر على المعرفة المجردة، بل هو تحويل الإدراك إلى موقف فكري مستقل يستطيع من خلاله الفرد تفسير الأحداث، واتخاذ قرارات مبنية على فهم عميق للواقع.

كيف نبني الوعي؟

• تحليل الماضي لفهم الحاضر → لا يمكن بناء وعي دون إعادة قراءة التاريخ بعيون نقدية، وليس بعيون تقديسية.

• تحويل المحتوى السطحي إلى فرصة للنقاش → عند ظهور قضية رائجة، يمكن إعادة توجيه النقاش حولها إلى بعد فكري أو تحليلي أعمق من خلال التعليقات والمشاركات الذكية.

• الوعي ليس مجرد رأي، بل موقف فكري مسؤول → تبنّي موقف تجاه قضية ما يتطلب فهم أبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية، وليس مجرد اتخاذ موقف عاطفي مؤقت.

• طرح الأسئلة بدلًا من تقديم أجوبة جاهزة → الشباب يبحثون عن فكر يتحدى قناعاتهم، وليس عن معلومات تلقينية.

• استخدام السرد القصصي Storytelling → تقديم المعرفة داخل قصص وحوارات جذابة بدلاً من الأسلوب التقليدي الجاف.

• ربط الفكر والثقافة بقضايا يومية معاصرة → جعل الفلسفة والفكر والنقد أدوات تحليل للحياة، لا مجرد مواضيع أكاديمية.

* تطبيق عملي: استغلال خاصية “البث المباشر” في المنصات الرقمية لعقد نقاشات فكرية مفتوحة حول القضايا المهمة، بحيث يصبح المحتوى أكثر تفاعلًا وجذبًا للجمهور الشبابي.

“إنّ النهضة تعني تغيير اتجاه الأمة من فوضى الانحطاط إلى نظام النهوض” – سعادة. وهذا التغيير لا يمكن أن يتحقق دون وعي عميق بالأسباب التي أوصلتنا إلى حالة الفوضى، وأدوات الخروج منها.

3. المعرفة: تحويل الوعي إلى أدوات فكرية

المعرفة ليست مجرد تراكم معلوماتي، بل هي قدرة على التحليل، الاستنتاج، وإنتاج فكر جديد. في العالم الرقمي، باتت المعرفة متاحة للجميع، لكن الفرق بين الإنسان المثقف والإنسان التابع هو كيف يستخدم هذه المعرفة.

كيف نبني معرفة حقيقية؟

• استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في التعلم → هناك اليوم أدوات تساعد في تنظيم المحتوى التعليمي وتقديمه بأسلوب تفاعلي يناسب الشباب.

• تحليل المحتوى بدلًا من استهلاكه فقط → بدلًا من مشاهدة فيديو ثقافي أو قراءة مقال، يمكن مناقشته، وتحدّي الأفكار المطروحة فيه، وربطه بالواقع.

• تحويل الثقافة إلى مشروع تفاعلي → عبر إنشاء نوادٍ فكرية رقمية، ومنصات تفاعلية تناقش القضايا الفكرية بطريقة جذابة.

• دمج الثقافة بالفنون والوسائط الحديثة → تحويل الكتب والأفكار إلى رسوم توضيحية، أفلام وثائقية، وحتى ألعاب فيديو.

• خلق محتوى ثقافي جذاب → استثمار الميمز، الفيديوهات القصيرة، والإنفوغرافيك لإيصال الرسائل العميقة بشكل سلس وسريع.

• إنتاج محتوى ثقافي “عملي” وليس مجرد نظري → تقديم الفكر والفلسفة كأدوات لفهم الواقع، وليس كمواد جامدة منفصلة عن الحياة.

مثال: لماذا لا يكون لدينا “يوتيوبرز ثقافيون” يناقشون المجتمعات والفكر والفنون كما تناقش قنوات الترفيه والموضة قضاياها؟ هذا هو التحول الذي تحتاجه الثقافة اليوم.

“المبادئ هي قواعد انطلاق الفكر” – سعادة. أي أن المعرفة لا يجب أن تكون مجرد “حفظ” للمبادئ، بل يجب أن تكون أداة لفهم الواقع والتفاعل معه بذكاء

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى